... سبق ان قلت ان للمال سلطانا أعلى في حياة السجن وفي وسعي أن أؤكّد جازما أن السجين الذي يملك بعض المال يتألم اقل عشر مرات مما يتألم السجين الذي لا يملك شيئا. إنّ رؤساءنَا يقولون ما دامت الدولة تؤمّن للسجين كل حاجاته فما شأنه وشأن المال مثلما يفكر رؤساؤنا. ومع ذلك فانني أقول لو حرم السجناء من القدرة على امتلاك شيء يخصهم ويكون لهم لفقدوا حقوقهم حقا، لماتوا كالذباب أو ارتكبوا جرائم لا نظير لها ولا سمع بمثلها احد، بعضهم ضجرا وسأما وبعضهم حزنا وشجنا وبعضهم بغية ان يعاقبوا مزيدا من العقوبة فيتبدل حالهم ويتغير وضعهم على حد تعبيرهم. ولئن كان السجين الذي كسب بعض الدنانير بالعرق الدامي يتصبب من جسمه بمخاطرات ومجاوزات قام بها ليجعل كل هذه الدُّريهمات القليلة، لئن كان هذا السجن ينفق بعد ذلك ما جناه يمنة ويسرة بغباء كغباء الأطفال، فان ذلك لا يعني ابدا أنه لا يدرك قيمة المال كما يمكن ان تتوهم لأول وهلة ان السجين شره الى المال شراهة تفقده عقله وصوابه. لئن كان يتلفه بعد ذلك ويبذره فمن اجل ان يحصل على ما بعده خيرا من المال. وما هو الشيء الذي يعده السجين خيرا من المال ويضعه فوق المال قيمة وقدرا. انه الحرية، او انه حرية موهومة. انه حلم حرية ان جميع السجناء اناس حالمون. سمعت سجناء محكومين بالاعتقال في سجن الاشغال الشاقة عشرين عاما يقولون وقد لاح الهدوء في وجوههم حين تنتهي مدة سجني ان شاء الله، عندئذ، سوف... ان لقب السجين وحده يعني انسانا محروما من الحرية والارادة فاذا انفق هذا الانسان ماله كان يتصرف ما شاء له هواه وارادته، كان يتصرف حرا، انه رغم الوشم والاغلال رغم السور الذي يخفي العالم الحر في نظره ويحبسه في قفص كما يحبس الحيوان الكاسر. انه رغم ذلك يستطيع ان يحصل على الخمرة ان يستمتع بمومس بل ان يرشو في بعض الاحيان مراقبيه من مسؤولي الجنود وحتى من ضباط الصفّ ليغضّوا النظر عن مخالفته للنظام على انه يستطيع ايضا وذلك ما يعشقه عشقا ان يتبجح امامهم اي ان يبرهن لرفاقه وان يبرهن لنفسه ذلك الى حين انه يتمتع بحرية هي اكبر من الحرية التي يتمتع بها. في الواقع ان السجين في حالة الى ان يتوهم وان يوهم انه له حرية وشأنا أكبر بكثير مما يظن، فهو مباح له بأن يتسلى وان يصخب ويعربد وان يؤذي الناس ويسيء لهم. المسكين يريد ان يقتنع بأمور يعرف انها مستحيلة وان ذلك هو السبب في ان السجناء يحبون ان يتباهوا وان يفخروا ويبالغوا في تقدير شخصياتهم التعيسة مبالغة ساذجة وهيبة مضحكة ثم انهم حين ينفقون مالهم ويبذرونه يجازفون بشيء من الاشياء وذلك عندهم مظهر حياة وحركة وهو عندهم خير ما يرجونه ويتمنونه ويطمحون اليه. تصوّروا رجلا يملك الملايين قد شُد على عنقه حبل. ألا يتمنى هذا الرجل ان يهب كل ما يملك من ملايين في سبيل ان يتنشق هواء. ان سجينا يعيش هادئا سنين طويلة متتالية وبلغ من حسن سلوكه وسلامة تصرفه أنه يعيّن عريفا، ثم ان هذا الرجل فجأة يصبح شيطانا من الشياطين، يعصي ويتمرد ويثور ولا يتورع عن ارتكاب اية جريمة قتلا كانت او اغتصابا او الى ما ذلك. ان رؤساءه ليدهشون عندئذ اشد الاندهاش وان الناس عندئذ يعجبون اشد العجب فماذا كان سبب هذا الانفجار الذي لم ينتظر منه احد كان ان هذا الانفجار المباغت لدى رجلٍ لا يتوقع احد مثله انما هو رغبة جامحة عارمة قلقة وحزينة وغريزية استحوذت عليه فجأة تدفعه الى اظهار شخصيته وتأكيد ذاته، تلك عواطف لا يفهمها من يراه فيحتار في أمره ولا يعرف كيف يحكم عليه انها اشبه بنوبة صرعٍ انما اشبه بنسج تصور انسانٍ دفن حيا ثم صحا علي حين غرّة. ان هذا الانسان لابد ان يضرب غطاء تابوته ضربا مستميتا ان يحاول رفع الغطاء ويحاول دفع الغطاء رغم ان عقله مقتنع بأن هذه الجهود كلها لا تجديه نفعا ولكن العقل لا يملك ان يسكن هذه الاستنتجات يجب ان لا ننسى ان كل محاولة يحاولها السجين لإظهار شخصيته بإرادته شبه ان تكون في نظر رؤسائه جريمة يستوي عندهم في ذلك ان يكون سبيله في اظهار شخصية خطير فاذا كان الامر كذلك كانت المخاطر وإذا كان الخروج عن النظام هو الخروج عن النظام فليهرع السجين الى المجازفة الى ابعد الحدود ولو وصل مع ذلك الى جريمة القتل الخطوة الاولى هي الضحية ثم يجنّ جنون السجين شيئا فشيئا وينتشي فاذا هو عاجز عن السيطرة على نفسه وكبح جماحه، ولذلك يحسن ان لا يدفع السجناء الى مثل هذا التطرف والغلوّ ليظل الجميع في سلام وأمان، ولكن كيف السبيل الى ذلك؟