لقد بلغ «التجنقيل» في السياسة في تونس أوجه حتّى أصبح يحقّ لنا ان نفتخر «بالمدرسة التونسية» في هذا الصدد، إذ تتالت القرارات والمواقف السياسية بشكل فاق كل التوقعات وأعجز اكبر المحلّلين: أحداث عنف دامية على امتداد اكثر من ثلاثة أيام مبنية على إشاعة كاذبة اطلقها عدل تنفيذ ضدّ المبدعين في قصر العبدلية مفادها وجود أعمال فنية تمسّ من المقدّسات، خرجت بعدها الحكومة المؤقتة مندّدة مدافعة عن المقدّسات وظهرت في رؤوسها الثلاثة أكبر مغذّ لتلك الموجة التي تمّ القبض أثناءها على عدد من المجرمين من ذوي الانتماء الى التيار السلفي ليطلق سراحهم لاحقا بعد أن هدّدوا الامن العام وروّعوا النّاس... ورئيس حكومة مؤقتة يسلّم سجينا ليبيا أثارت قضية تسليمه في هذا الظرف بالذّات جدلا كبيرا، ورئيس الدولة المؤقت لا علم له بذلك اذ توقيت التسليم يتمّ فجر يوم أحد في غفلة من الجميع، فتثور زوبعة بين قرطاج والقصبة وصلت الى تبادل التصريحات النارية والتهديد بالاستقالة دون ان يكلّف أحدهم نفسه عناء تفسير ما حدث... ورئيس دولة مؤقت يعلن مباشرة بعد ذلك ودون تفسير، إقالة محافظ البنك المركزي ويؤكد على أنّه اتخذ هذا القرار منذ أشهر، وحكومة مؤقتة تقبل الأمر الواقع إرضاءً لرئيس مؤقت غاضب مجروح في كبريائه... وزارة الخارجية في الحكومة المؤقتة تبادر بخطوات وحدوية في المغرب العربي وتفتح تونس على مصراعيها في خطوة مفاجئة وغير مدروسة ليدخلها جيراننا ببطاقة التعريف أملا في استثمار قد يأتي ودون تحسّب لهجوم عمالة رخيصة وفي وضع يتسم بعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني! «تجنقيل» يُظهر السياسة في تونس كلعبة كرة الطاولة الصينية بفاعليها السياسيين ذوي المهارات المدهشة في الحكم! وبكرتها التي تنقذف هنا وهناك وعبر كل الزوايا والآفاق!. وبجمهورها المتكوّن من عامة الشعب الكريم بمن فيهم مجلسهم التأسيسي المندهش الغارق في التركيز مكتفيا بإمالة الرأس يمينا وشمالا على زاوية لا تتجاوز بضع درجات! مشهد سياسي أُفضّلُ أن أنعته بالسريالي، حتّى اختلف عمّن نعته بالطفولي حين ربطه بمنطق اللعب ومقتضياته، لأنه مشهد غير قابل للفهم والتفسير والتمثّل... مشهد يتعالى عن كل منطق تختلط فيه الاهواء والنزعات والانفعالات الفردية والتخطيطات والمصالح وتتداخل عوالم الشخصية بالدوافع الموضوعية بشكل يعسر فيه الفصل بينهما.... لماذا هذا الاغلاق المطبق؟ لم التعسير على النّاس ولِمَ الغموض؟ ما حقيقة ما يجري في الدهاليز؟ هل هناك استراتيجيا واضحة من وراء لخبطة هذا المشهد السريالي؟ وأين «الوفاق» من كلّ ذلك؟ أين الوفاق فيما بين الحكام وفيما بينهم بين شعبهم وفيما بينهم وبين معارضيهم؟ إنّه الغائب / المغيّب الوحيد على هذا المشهد الذي برع فيه فاعلوه في تعميق قدراتهم في التفرّد والانفراد في ممارسة الصلاحيات... لكنّه مشهد يسير على غير أهواء النّاس وعلى غير أهواء ثورتنا فلن يعتمر طويلا، لسبب بسيط لانّ شعبنا قد ثار على مثل هذا «التجنقيل السياسي» وأطاح به فلا نظنّه يقبل استنساخه تحت ايّ عباءة جديدة. فمتى ينسجم الخطاب مع الفعل؟ ومتى تمارس السياسة وفق مبادئ ثورة 14 جانفي؟ ومتى يُكرّس الوضوح وتفرض الشفافية؟ ومتى تغلّب مصلحة تونس على المصالح الآنية؟ ومن الآخر: هل تفضلون