هناك من الكتب ما لا تجد بدا أمامها سوى الانحناء لحبرها وألمها، تلك المكتوبة بحرقة وبوجع عميقين... تلك المتأرجحة بين الغيم والمطر تماما كالإصدار الأخير للشاعر عبد الفتاح بن حمودة الذي تخير له من الأسماء «نزولا عند رغبة المطر» والذي يستميت من خلال متنه في مواصلة مشواره الشعري بأنفة الشاعر وكبرياء المجاز... «نزولا عند رغبة المطر» مجموعة شعرية صدرت مؤخرا عن منشورات كارم الشريف في طبعتها الأولى وصمم لوحة غلافها الفنان التشكيلي حسين مصدق، وقد أهداها ابن الثورة عبد الفتاح بن حمودة إلى شهداء الثورة التونسية وشهداء 26 جانفي 78 وشهداء انتفاضة الخبز 84... والى شهيدي الحرية الفاضل ساسي ونبيل بركاتي دون أن ينسى امه والنساء اللّواتي دثرنه في ليل المطر البشري... تجربة عبد الفتاح حمودة الحبرية انطلقت مع أول مجموعة له بعنوان «الصباحات» سنة 96 لتتلوها «آنية الزهر» سنة 98 و«الملكة التي تحبها العصافير» 2002 ثم «أجراس الوردة» في نفس السنة وسنة 2003 أصدر مجموعة «عندما انظر في المرآة لا أفكر» ومجموعة «الفراشات ليلا»... لتأتي مجموعة «نزولا عند رغبة المطر» بعد تسع سنوات من الانقطاع عن أزيز المطابع وبلور المكتبات... والمتأمل في عناوين المجموعات الشعرية يلاحظ دون كبير عناء تشبث الشاعر بالسياق الطبيعي (الصباحات، الزهر، العصافير، الفراشات، المطر) والطبيعة هي الملهم الاول للشعراء دون منازع، ولئن كانت البساتين والرياض والحدائق سياقا «محتوما لشعراء ما قبل الحداثة و»هجوم الآليّ على الانسان» فان الشعراء اليوم يستجيرون بالطبيعة من رمضاء التشوء وعبودية الازرار... ومنهم الشاعر عبد الفتاح بن حمودة ذاك الذي يرصد الصمت قبل الحركة ويعيش في خطر دائم وهو مدجج بالبرق... في هذا المنجز الشعري يسير عبد الفتاح بن حمودة مع الجميع ولكن خطوته منفردة لانه آثر عدم الهروب وظل في وسط اللجة... وهو يلامس الاشباح... متن هذا الإصدار توزع على أربعة فصول تماما كما فصول الطبيعة، (صباح الحدائق المعلقة، ما يفعله الرعاة عادة، أغنيات للذين يسبحون دائما، المياه التي تسبق الجريمة)... في هذا الإصدار يشي عبد الفتاح بن حمودة بتفاصيل كتابته فيكتب في الصفحة 184: «في ليل باب سعدون حيث تنبح عجلات المطاط في كل مكان في أمسيات الصيف الملتاعة، في محطة المترو العارية بعد منتصف الليل، ومع كل هبوب مفاجئ لهواء مجروح تبتل به أرواحنا، كانت تنبتٌ حشائش «قصيدة النثر»...»