ليس من وقفتي العابرة هذه ان تطأ أرض الديمقراطية من جهة البحث فيما هي تعريفا وتاريخا وتطبيقا ولا الوقوف كثيرا عند نجاحاتها في الازمنة الحديثة حين اعلن عن انها هي المعنية بالثورات الكبرى في انقلترا والولايات المتحدةالامريكية وفرنسا على وجه الخصوص، انها المعينة بكيفية سير الدولاب في اصناف النظر في مخصوص البشر، ليس من همّي ذلك هنا، ولكن ان اتأمل وضع وطني هذه الشهور والأيام الماضية والتي كشفت ان حدث الديمقراطية هو السر الجديد فيها والذي انتظره التونسي الكليم الثابت والمستمر في صلابته وتحديه لآلامه الدفينة وجروحه الغائرة. حين انظر وانا نفسي تلامسها دغدغة رهيفة الملمس شديد الدعاية واللين وكأنّي اهفو الى شيء هناك بانتظاري فاني اجد نفسي ككل تونسي قد انقدحت عيناه اكثر وامتلأت رؤاه اكثر بدغدغات الحرية الكامنة في الديمقراطية، وككل تونسي تواتر في ثناياه من قلبه الى أذنيه وبصره روح خفيف ونوع من العطر يفتح الانفاس اكثر فأكثر، ان تلك خطوات سريعة كما في هواء يطير بي رويدًا رويدًا لأجد نفسي ضمن هذا الملمس الرطب كالعش ذي الرياش والقطن والوثير فيه الدثار والمسكن اين كان لدى البشر او لدى الطيور رفت كل جوارحي بعد ان وضعت ورقتي في صندوق الانتخاب ولم يتأمل شخص ما وضعت وكيف اخترت ولا كيف قرأت الاسماء ولا العلامات ولا العناوين؟ لأن العنوان كان أني سأصبح في الديمقراطية انام وافيق على أنغامها سلاستها واطوارها اللذيذة تكمن في المفاجأة المسرة بعدما حصل في تونس بلدي الابي من احزان وضحايا ومآتم. سرت وكأني اصبحت الانسان الجديد الذي بحثت عنه داخلي وأسرعت في بناء مسكنه لديّ لكنه لم يحضر بعد ولم يكتمل المسكن الذي صنعته له رغم ذلك انتشيت وغنيت وطرت الى امكنة عديدة دون ان اعرف أين تقودني قدماي قلت اني الانسان الجديد الذي ولدته الديمقراطية التي بها ينشأ انسان العصر الحديث لاني تكلمت كثيرا عن العصر الحديث والحداثة ورنين الحداثة ومسبقاتها ونواتجها ولكني لم انعم بها حقا ولو يوما واحدا كنت دائما اشعر بالمطاردة والمضايقة والملاحقة وهي للاسف حقيقة الى اليوم. طرت في الداخل والخارج اما بداخلي فقلت اني انعم بالحرية النفسية والسكينة الوجودية وانفتاح الرغبة في المعرفة والبحث والتقدم العلمي لصناعة الافضل سافرت في داخلي بان اقنعت نفسي بحب الوطن اكثر وحب الحياة وتدعيم منسوب القوّة مع الذهن ومجمل انفعالاتي واضاءة المظلم من جوانب شخصيتي بالاستناد الى مفاعيل الديمقراطية وما تستطيع تخليقه فيّ من حب للادب والعلم والنفون واضاءة المظلم من جوانب شخصيتي بالاستناد الى مفاعيل الديمقراطية وما تستطيع تخليقه فيّ من حب للادب والعلم والفنون واضاءة معاني الصدق والاقدام والتفكير والعناية بافعالي واقوالي وترتيب علاقتي وفقا لمبادئ تلك اللحظة الهائلة من ولوج الديمقراطية وهي ان احب اكثر وبإتقان ما يكون الحب لاني شعرت اني لم أكن أحب أو لم اعرف كيف أحب او ماهو الحب كما هو الآن زمن الاقدام على المودة والاخاء والوفاء والالتزام والتضحية وجعل المسؤولية من بين قيم الحب لديّ لأني الآن مسؤول عن نفسي بكل ما أوتيت من قوّة الوجدان والذهن والفكرة والخلوّ من افعال الوهن والعجز والجبن والاتكال والانقياد الاعمى. اني الآن احيا الشّجاعة لاني احيا في الديمقراطية تلك سفرة في الداخل تُرافقها سفرة مع الأمكنة والأزمنة لقد بدت لي الامكنة غير الامكنة التي اعتدتها وبدت لي ردهات اليوم بليله ونهاره غير ردهاته التي سبقت لخطتي هذه، تحولت معانيها في ذهني. لقد بدت لي الامكنة اكثر جمالا حين تأخذني كل شجرة وحجرة اليها مأخذا كما مجامع الاعشاب والزهرات المتناثرة والنسائم التي تلاطفها بدت لي كلها على أنقى صورة من صور الجمال وترسيماته تماما مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الأزمنة كلّّها تدعوني اليها صباحا رؤوفا لطيفا ومنتصف يوم هادئ رائق ومساء كله حلم ولذائذ يتلاءم فيه وسع السماء مع وجه الارض ولون الشمس الآفلة مع بداية بزوغ القمر في الافق الناعم الحالم مع لطائف الحركات البادية من الطيور والبشر المسرعين والمتجوّلين في آخر النهار واستقبال ليل فيه أصناف من الحيوات والموجودات تروق بها كل مناظر الحياة التي بداخلي اسارع اكثر الى داخلي لاذكر اني الانسان الجديد الذي بات ينشد فكرًا لم يعهده من قبل هو أصل الكلام ومنشأ الحقيقة والسبيل الذي يسلكه الآنا الآن وقد دبّ في مفاصلي رحيق الديمقراطية وأدوائها التي عملت فيّ عملها فاصبحت ديمقراطيا مع نفسي في سكونها وحركتها، في افعالها الباطنية والداخلية، اصبحت ارتوي من ذلك الرحيق الذي زوّدتني به في تلك الايام التالية للانتخاب شعرت ان العالم الذي بداخلي هو عالم المجد والشموخ وطهر النفس وكبرها إنها لحظة منافية للاستعباد والعبودية، لقد انتهت في لحظة آلام واوجاع ومآسي الامس وحلّ فيّ انسان الحب والفرح والاهازيج المرحة وصفاء الفكر وقدرته على ملامسته الخفايا والصعاب ومواجهة اسئلة العصر المحرقة انه الانسان المدني فيه بعد ان لم يكن قد وجدته في تلك الفسحة ما بين الآنات والأنّاتِ، ما بين الامس والغد ما بين الانسان الذي فيه آنفا والذي حلّ فيّ اثر حدث الانتخاب.لكن رويدًا رويدًا خَفَت صوْتُ الحرية فيّ وذبل الحب الذي انتشيت به تجاه الآخرين والاقربين وخَفَت صوتي وبدت حركتي مراقبة شديد الرقابة وملاحقة شديد الملاحقة ومضايقة شديد المضايقة ودبت في جوارحي مضادات الحرية ذاهبة بمباهج الديمقراطية وانعكست لديّ في لحظة من القسوة الوالدة في عالم السياسة وخطابها وخطبها صورة قاتمة مؤلمة للنفس فأصبحتُ أميلُ الى الريبة والحيطة والتخوُّن من الحاضر والآتي انها لحظة افقت فيها من نشوة الاعتقاد في كون وطني قد دشّن لأوّل مرة في تاريخه ميدان الديمقراطية وجعل كل الشعب يرتاد هذا الميدان في ابهى صورة للشعب المقبل على انجاز مشروعه التحديثي والتقدمي وانجازمهمة الحياة الأرقى والانقى والأبهى والامتع في صورتها صورة الحرية الكاملة لشعب كامل وجعل ذلك الشعب التونسي الاصيل يسع نفسه لقيم العدل والمساواة وحرية الاعتقاد والتحاور والريادة في استخدام العقل واستقدام مبادئه التي بها مفتاح الحداثة التي علا بها الغربيون واصبحوا على ماهم عليه شعرت بكآبة لا حدّ لها وشعرت بأذى ووحشة قاهرة وقاتلة اصابتني بها أساليب ادارة الشأن العام والذي منه الشأن الخاص حيث كثرت المزالق وتقلص الحوار وبدت الاعين غريبة عن اللاعبين والآذان موصدة لما ينطق به وسارع العنف في صلفه وعدوانيّته اللا محدودة صورة من صور الحياة اليومية في الجهات والاحياء وبين العشائر والاسرة الواحدة ودبّ الشّتات وتقلص الاتحاد الى ما يشبه الغياب وتناثرت بقايا الدولة ولم يبق منها الا بعض الرسوم وبدأت في الاندثار شعارات ومبادئ اتفاقية واخرى قانونية واندحر القانون في رسومه وتطبيقاته في اغلب الوضعيات واصبح التراجع عن القرار وأخذه بنفس المرتبة من القيمة واصبح يراود الناس حب التجاوز للممنوع والمحترم والاقدام على المخاطر دون عقل ولا حتى غريزة الخوف من الخطر الدّاهم اصبحت الجرائم عضوية او منظمة او عادية مهما بدت فريدة في نمطها ومستجدها وغلبت على الانفس روح المغامرة فيما ليس تهون فيه المغامرة كان يغامر الانسان باستعمال آلة حادة او سلاح ناري ازاء اسباب تافهة مثل الاشتباه في كون هذ الشخص يريد حرمانه من علبة سجائر او تعامل عليه بان منع عنه اشعال سيجارة أو تمكينه من قارورة من اي مادة كانت ويصل الأمر الى القتل بمجرّد وشاية سرعان ما يقبلها المفترض تضرره من الوشاية ويقبل بسرعة على انجاز ما يعتبره انتقاما او تأديبا لمن صدر منه ما اتهم به زورا وبهتانا وتلك صورة من صور فقدان المجتمع لميزة استخدام العقل والتريث في أخذ القرار او الالتجاء الى وسائط القانون المدني لاسترجاع الحقوق او تعويضها اوالتلطيف من خسارة المواطنين ازاء ما يمكن ان يتعرضوا له من مخاطر من الحياة العادية او حتى اثناء الازمات ونحن في وضع بين العادي والمتآزم ومن المفروض قدرتنا على ادارته بكفاءة عالية لاننا لم نتعرض مبدئيا لما تعرضت له بلدان اخرى من اطوار عنيفة في طريقة الانتقال الديمقراطي للسلطة السياسية اذ شهدت بلادنا حالة نادرة من الهدوء اثناء ازاحة الحكم السابق واستطاع الجيش الوطني تأمين الجزء الاكبر من الامن والانتقال بالبلاد بصورة نادرة في هدوئها الى الحياة العادية فوقف الشعب اجلالا لجيشنا الوطني الباسل ذي الشجاعة الفائقة والذكاء النار في كيفية التدخل وحماية مؤسسات الدولة ومجمل المواطنين غير ان السياسين الآن لم يقدروا على ضمان تلك الحالة من الثقة المتبادلة بين الشعب واجهزة الدولة بل شعر أغلبنا ان الريبة والخوف يحلان محل الثقة والأمان بل شعرت شخصيا باستهداف قوي وقاهر لارادتي حتى في كيفية التنقل بل الملاحقة والمضايقة الى حدّ وجود ي في غرفتني بالمنزل. لقد بدا النجاح شبه اخفاق والديمقراطية مدخلا الى الدكتاتورية والحرية منبتا للعبودية تلك احوال من بين الاحوال اصفها وقد انجر اليها بلدي الأبيّ تونس الخالدة. ما الذي حصل؟ لقد وقع سوء ادراك لمعنى الديمقراطية من جهة من هو ساهر على منافذ السلطة انه لم يستطع تدبّر هذه القيم وترجمتها في أطر سياسية وثقافية منفتحة ومفتوحة للجميع وعلى الجميع دون اقصاء او تهميش او ترهيب او تعذيب باساليب الحضارة الجديدة في أوجهها السلبية باستعمال معارفها النفسية والاجتماعية لأجل الاخضاع واحكام الرقابة على الافواه وتقييد الأيديو الاقدام بما ان التنقل بحرية إلى الامكنة اصبح مخيفا في أغلب الاحيان واصبح الفرد يلتفت يمينا وشمالا خيفة ان يكون قد قام بحركة او فعل او قول يعد تجريما مع منظور السلطة الجديدة فينتظره آنذاك عقاب لا يتلاءم بالضرورة مع ما صدر منه ان يكون العقاب اشد وقعا واكبر إذابة مما يمكن ان يفترض ان يترتب عن فعله هو المعدّ جرما لقد انتشرت تعابير التصفية والاجتثاث والتطهير والتّشفي والفساد والمفسد هكذا دون تدقيق في توصيف المصوف ومعها نشطت قوى التّرهيب والادانة والرقابة والمضايقة والملاحقة لغير الموجب تعرضهم لهذه الممارسات المنافية تماما لروح الديمقراطية وحقوق الانسان الاولية لقد انتشرت الفاظ المحاسبة والقصاص وادانة افعال الثقافة والفنون ووصل الامر الى اتلاف الاعمال الفنية ومحاكمة الاشخاص من اهل الفن والعلم وانضاف الى ذلك انتشار صورة من صور اظهار القوّة هي عنف حقيقي وليست من القوّة في شيء اذ من له القوّة حقّا لا حاجة له باظهارها والتونسيون هم اقرب في طباعهم الى السلم والجنوح لها وابعد عن توظيف القوّة على نطاق واسع الا عندما يجدون انفسهم مضطرين إلى ذلك إما في حالة حرب كما زمن الاستعمار او في حالة فوضى تتحملها السلطة السياسية كما هو الامر الحاصل اليوم لقد غابت الآن صور الدعابة والثقة والبشاشة والابتسامة والصداقة والألفة واللحمة ومزيد التقارب بين الناس وحل محلها الخوف من الآخر والريبة منه والتشتت والاحتماء بالقبيلة والعشيرة او بالاموال والسلاح الناري وقوة العضلات واحداث الفوضى المجانية وقد تستغل تلك لأجل المزيد من اظهار القوة والعنف هذا الوضع يمكن وصفه بالمزري لا مدينة ولا تمدن في ظاهره ولا في خلفياته. من البيّن ان التمدّن قد وصلت اليه الدول الرّائدة في ممارسة الديمقراطية كالولايات المتحدة وانقلترا وفرنسا حينما مكنت الديمقراطية من اظهار انوار العقل بحيث اصبح حكما بين الناس لا الأهواء والمعتقدات الخاصة التي يتمكن ان ينتمي اليها فرد او مجموعة تسعى الى فرضها فرضا بوسائط عنيفة تقهر المواطنين عليها، هذا التمدن تأسس على مبدإ ثوري تمثل في استخدام النقد سلاحًا ضدّ الموانع والعراقيل الموصدة لباب التفكير فيما هو مختلف ومناقض بصفة جذرية لما هو مقبول في المستوى المتداول ولم ينج من سلاح النقد اي ميدان فلا شيء محصّن امام النقد بما فيط ذلك النص الديني الذي اصبح مفتوحًا للتأويل واعادة التفكيك والبناء وفق معايير العقل الحديث عقل العلم وليس عقل الخرافة والرواية والسلف تلك هي جسارة الديمقراطية الغريبة التي عرفتها تلك البلدان المذكورة ومنها اصبح الفعل السياسي فعلا مدنيا بامتياز لا دخل للمقدس الديني فيه مع العلم ان النقد الذي طال الكتاب المقدس لم يكن شأنه خاصا بالدين فحسب بل كل مناحي الوجود الانساني رغبة في اكتشاف رؤى جديدة للتقدم البشري وتجاوز نزعات الظلام التي رانت على البشرية نتيجة الاكتفاء بالتقليد والوقوف عند حدود ما تمليه الدغمائيات السائدة لقد تحرّر البشر من خلال تحرير العقل وتحرير القول في شتّى اصناف المعرفة البشرية مع العلم ان ذلك لم يؤدّ الى تلاشي الدين او المعتقدات الخاصة في المجتمع بل بالعكس قد مكنها النقد من اعادة بناء طرق جدلها ومحاورتها للإنسان مع ادراك حدودها داخل النظام المدني الذي يحمي الجميع ويضمن حريتهم كلهم في الانتظام والتفكير والنقد والاكتشاف والخلق والابتكار دون حدود من اي نوع كانت لا حدّ للتفكير كما لاحدّ للحرية الفكرية وللاعتقادات. اذا كنا حقّا في ديمقراطية ناشئة وقد بدأنا مثل هذه البدايات باستعمال العنف ضدّ العقل فاننا سنقضي على لبنة التمدن التي بدأت تختمر في الزمن المعاصر في بلدنا تونس ولكن اذا ما استطاع السياسيون والمثقفون والعلماء إدراك كنه الحداثة ومفاعيل الديمقراطية واقبلوا عليها تنمية وصياغة وصيانة، وحماية وتربية فإننا سنقفز دون شكّ إلى التمدن في تقدمه وبهائه ونمائه وجماله وسنتمكن من اكتشاف الانسان الجديد انسان العام الحديث الذي قلد مع ولادة النقد والعقلانية في أبهى صورها والتي استطاعت ان تنشئ ذلك التقدّم في الحضارة الغربية ولا ينقص حضارتنا الاّ التناغم والتفاعل الايجابي مع تلك القيم الكونية فتصبح حينئذ حضارة كونية كمثيلتها الغربية ولن يعني ذلك فقدانها لميزانيتها اذ الميزات تكمن قيمتها في عدم عرقلتها او نفيها وتصديها لتجديد الروح والطوق البشري نحو الحلول الجذرية لمشكلاته الانسان من خلال الابداع العقلي لتلك الحلول لا الابداع الوهمي لها. اذا وقفنا دون هذه المداخل الحداثية للديمقراطية لا يمكن القول بان تونس تسير نحو الديمقراطية.