إن الذين تابعوا بيقظة وفطنة أطوار المحطات الاساسية والفرعية لثورة 17 14 المجيدة في بلادنا، وثورة 25 يناير الباسلة في مصر الشقيقة، وقد تيسر لهم رصد التشابه الذي يقارب التطابق بين سياسات حزب الاخوان الحاكم في مصر الآن من ناحية، وتوجهات حزب جماعة الاخوان الذي يقود مؤقتا المثلّث الحكومي المؤقت في تونس من ناحية ثانية... كما أنه قد يكون من البلاهة السياسية حينما نعتبر ذلك التطابق من باب المصادفة العابرة التي تجود بها بعض الأقدار، أو من باب المفارقة الشكلية المجردة... فالمعطى الرئيسي الحيوي الذي ينبغي ان لا يغيب اطلاقا عن الأذهان هو أن التنظيمات والجماعات العقائدية حتى النخاع في الوطن العربي، بذراعيها السلفي السياسي الناعم، والسلفي العسكري الارهابي (ومن ضمنها الحزبان الحاكمان الآن في تونس ومصر، وهما أخوان بيولوجيان تماما لهما تركيبة جينية وعقائدية ونفسية واحدة) تنهل جميعا ولو بأساليب مختلفة وبفجاجة متفاوتة وتكلّس عقائدي متطابق من «إلهامات» أمير الاخوان «حسن عبد الرحمان البنّا» ومن المنابع الفكرية الظلامية والإرث العقائدي الرجعي الموروث عن السيد قطب وأبي الأعلى المودودي وحسن الترابي، وغيرهم من أباطرة الفكر الاخواني الرجعي. لقد أصبح غير خاف على أحد في تونس ومصر على حدّ السواء، أن انقضاض الاخوان على جهاز الدولة في القطرين الشقيقين، لم يكن سوى نتيجة متوقعة لكارثة انتخابية طغى عليها من البداية الى النهاية، وباء المال السياسي والتمعش الانتخابي السافل واغتصاب النفوس والضمائر والأعصاب والعقول البريئة التي أرهقتها عشريات الاستبداد المطلق واللصوصية الحكومية والعائلية المنظمة وأخطبوط الفساد العارم للنظام الدستوري الكمبرادوري، في مرحلة بورقيبة، ثم فترة الجنرال الدموي بن علي. إن الرّصد الدقيق والمتماسك للأحداث والوقائع والتطورات التي عاشتها تونس ومصر طيلة الأشهر الأخيرة، تصرخ لمن يريد الاستيعاب والادراك والفهم العميق، بأن صندوق 23 23، بجميع إفرازاته الاساسية والفرعية، قد شكّل بجلاء كامل، ضربة البداية الموجعة الأولى للحرب المعلنة على ثورة التحرّر المجيدة في تونس ومصر على حدّ السواء، وعلى شهدائها البواسل الأبرار وجرحاها ومصابيها الأبطال، وعلى طلائعها الثورية التاريخية وقواها الشعبية الميدانية وأحزابها ومنظماتها الوطنية المناضلة... فالذاكرة الفردية والجماعية الحية تبوح للجميع بأن المشاورات والصفقات السياسية بين جماعات الاخوان في تونس ومصر، والدوائر الامبريالية الامريكية والرجعية الخليجية (ضمن مسلسل تطويق الثورة والزيغ بها وإجهاضها)، قد انطلقت حتى قبل كارثة الانتخابية في البلدين الشقيقين، من ذلك أساسا زيارة التنسيق والتشاور والتخطيط التي أدّاها الشيخ حمادي الجبالي يوم 9 ماي 2011 الى واشنطن عاصمة الاستعمار الجديد واجتماعاته العديدة مع مسؤولين مأذونين في وزارة الخارجية الامريكية وأعضاء بارزين في لجنة الدفاع والخارجية بالكونغرس الامريكي... كما أنه في تطابق تام، اندرجت زيارة التشاور والتخطيط والتآمر على الثورة، التي قام بها الى واشنطن الشيخان محمد بديع وأسامة ياسين أين اجتمعا معا طيلة ثلاث ساعات مع مسؤولين حكوميين رسميين، علما أن المذكور الأخير يتقلد الآن منصب وزير الشباب في حكومة محمد مرسي. الاستيلاء على الثورة لقد برهنت عودة الديكتاتورية الزاحفة على سلامة وتماسك التحذيرات التي طالما صدعت بها ورفعتها عديد الاصوات والأقلام والقوى الثورية والنقابية والحقوقية الوطنية حتى قبل 23 اكتوبر والمتعلقة بالحذر السياسي الشديد الضروري وبالتحفّظ المطلق المبدئي، بل وبعدم منح أية ذرّة من الثقة المجردة أو أي نوع من أنواع «المساندة النقدية» الخاسرة، الى مثلت حكومي مؤقت يهيمن عليه تماما حزب عقائدي متأصل، إخواني على وجه التحديد والدقة، ولم يشمل قاموس مفرداته وتعابيره منذ تأسيسه والى اليوم عبارات متداولة اليوم، على غرار الحوار المصلحة الوطنية التوافق السياسي الثورة التحرر الوطني الحق النقابي الديمقراطية حرية التعبير والاعلام. كما أن هيمنة حركة الاخوان في تونس ومصر على السواء وهي لا أقل ولا أكثر الذراع السياسي «المعتدل» للتيار السلفي العام على المفاصل الاساسية الحيوية للدولة في القطرين الشقيقين وغطرستها البوليسية الدموية ونسجها لحكومات عائلية وعشائرية، وتنصلها المعلن من تحقيق أهداف تحررية لم تساهم فيها لا من قريب ولا من بريطانيا أو قطر، وتجاهلها العلني الصارخ لأصوات المجتمع المدني والسياسي والنقابي، واغتصابها السافل للوطن وترابه المقدس، كل تلك الهيمنة المتغطرسة برهنت نهائيا على السقوط النهائي لكل أنواع المراهنات الخاسرة والبائسة عوّلت عليها بعض الدوائر والأحزاب والشخصيات، إما من باب التزلّف والتودّد للحزب الحاكم الجديد وللعائلة المالكة الثالثة في تاريخ بلادنا، وإما من باب الطمع المهين والانتهازية المقرفة ودخول بيت الطاعة الذليلة... بالسّاق اليمنى وجوبا! إن ثورة الشهداء والمصابين والأيتام والأرامل والثكالى، تمر اليوم وأكثر من أي وقت مضى، بمنعرج مفصلي في منتهى الحساسية. كما ان الوطن المقدس في مفترق طرق، لا يحتم أقل من مزيد تفعيل المقاومة الشعبية المنظمة وشحذ الهمم الوطنية ورصّ الطاقات والصفوف والقوى المنصهرة منذ البداية ضمن المنطق الداخلي للمسار الثوري المجيد. وتحصينه تحصينا فولاذيا من سموم الخنادق الظلامية ومن ثاني أوكسيد عصابات البورجوازية وشظايا النظام البائد البورڤيبي والنوفمبري. ولا يخفى على أحد، أن تلك المقاومة الشعبية والسياسية والنقابية والحقوقية، لن تكون أنشودة حماسية مجردة نتغنى لها ونتلذذ بمعانيها الجميلة، بل ملحمة نضال وطني ميداني طويل النفس، حماية للثورة وتحقيقا لأهدافها المقدسة، وتكريما لشهدائها وإخلاصا لهم.