لئن جاز تفهم الدوافع البريئة وغير البريئة للهستيريا الاعلامية الصاخبة المندلعة أخيرا حول ما أسمته بعض الاصوات «الفراغ السياسي» أو «غياب الدولة»، فإن ذلك لا يبرر إطلاقا تعمد ترويج التضادد المفتعل بين الثورة الشعبية المجيدة من ناحية، والدولة القائمة من ناحية ثانية... فالأغلبية العريضة من أوساط الرأي العام المدني والشعبي والسياسي في بلادنا، قد أجمعت على أن ثورة 14 جانفي تمثل ثورة اجتماعية سياسية متماسكة وذات جذور سوسيو اقتصادية بات الجميع مستوعبا لها تماما. برهنت على انها ثورة سلمية وهادئة، صادقة ولا تتحمل اي تأويل مغرض، وبناءة تماما ونابعة كليا من خلال الوجدان الاجتماعي والنفسي لشعب باسل متحضر ومثقف، يأبى القهر والتجويع والمهانة والاستبداد والفساد. 1 منطق الثورة لا يتضمن إلغاء الدولة في ذاتها إن أي شعب عانى ويلات التفقير والاستغلال والاضطهاد والمهانة وحتى العطش (في عديد المناطق) طيلة عقود متتالية مظلمة وظالمة، لا مفرّ من اي ينجب من صلبه، طلائع متنورة وطاقات متفجرة تتكفل بكل حزم واستماتة بانجاز ثورة اجتماعية سياسية لرفع جميع انواع المظالم، وهو على وجه الدقة ما عاشته ومازالت تعيشه بلادنا، اي ثورة 14 جانفي المجيدة. فما أنجزه ابناء وبنات الشعب التونسي الأبي ليس على الاطلاق تمردا سياسيا او عسكريا، وليس ايضا عصيانا مدنيا فوضويا هداما، بل ينخرط تماما ضمن الثورات الاجتماعية الطبيعية المتوقعة في كل لحظة والمندرجة عضويا ضمن قوانين التاريخ وبوصلته وأبجدياته، فالثورة تتفتق من اجل البناء والتأسيس، وليس أبدا بغاية الهدم والفوضوية والفراغ، كما ان ثورة 14 جانفي لم تأت اطلاقا لنسف الدولة في حد ذاتها او تهديم ركائزها في حد ذاتها (مثلما تروج الأبواق المناوئة للثورة)، ولم تأت ايضا من اجل تهديد الاقتصاد والسياحة والاستثمارات وتحفيض نسبة النموّ (كما قال الوزير المؤقت للمالية). كما أن ثورة الشعب التونسي لم تتفتق أبدا من اجل توسيع دائرة البطالة في البلاد، أو من أجل احلال مناخ من الفوضى والرعب والتخريب والهلع في النفوس... اطلاقا لا وألف لا!! فثورة 14 جانفي الباسلة هي ليست فقط براء تماما من كل تلك الاوضاع والحالات، بل هي الضحية المباشرة الاولى لتلك الاوضاع التي صنعتها الدولة نفسها وهياكلها، أو تغاضت عنها وتقاعست في مواجهتها وتطويقها في الابان، ثم أقدمت على توريط الثورة فيها، بغاية تضييق الخناق عليها وتشويهها ومناوءتها قصد وأدها في المهد، عبر الآليات السياسية والأبواق الدعائية المختلفةوالمسالك البوليسية المتنوعة. فالمصاعب الاقتصادية العامة التي أرهقت الكادحين والفقراء والمعطلين عن العمل والمحرومين (أكثر من إرهاقها للدولة ورؤوس الاموال المستكرشين)، تعود الى ما قبل ثورة 14 جانفي بسنوات عديدة، وهي مآل طبيعي لواقع الفساد والرشوة والتهريب المنظم وغياب الدولة الذي كان سائدا في عهد طغمة الجنرال الهارب وبيادقه وأذياله، في حين أن الثورة جاءت تحديدا لوضع حد لذلك الواقع الموبوء، كما أنها تفتقت لتصنع الدولة وتحميها وتحصنها وتعيد لها مكانتها، وليس أبدا لتهديمها ونسفها، لأن غياب الدولة يؤول الى الطوفان العام والفساد العام والاستبداد العام: فالمنطق الداخلي للثورة الشعبية لا يتنافى مع استمرار الدولة اطلاقا، بل العكس هو الصحيح، حيث ان ثورة الشعب تظل في حاجة حيوية الى سلطة شعبية منظمة، اي الى دولة الشعب القائمة على الحريات والعدالة الاجتماعية والانعتاق الطبقي والسياسي والكرامة الوطنية... ... أما بيت القصيد، فهو ينحصر فقط في خيارين اثنين لا ثالث لهما: فإما دولة تعيش عصرها وتواكب وتختار المجد لنفسها وتحمي ثورة اجتماعية بنّاءة وتحصنها بوفائها الفعلي لثلاث مائة شهيد وشهيدة، وتواصلها العضوي مع شعب توّق وشجاع تحدى الرصاص وتعود عليه، ... وإما «دويلة» فردية او عائلية أو قبائلية أو طبقية منعزلة ومنبوذة، تعيد انتاج عصابة 7 نوفمبر الدموية في شكل آخر، وتتنكر لثورة شعب بكامله وتطعنه في الظهر. وتختار الذخيرة الحيّة القاتلة (كما فعل القذافي) فيكون الانهيار مصيرها... 2 التوجّس السائد بين الاجتماعي والسياسي... ما العمل؟ لقد كشفت ثورة 14 جانفي المجيدة بجميع تفاعلاتها وإرهاصاتها، عن حالة صارخة من التوجس المتبادل المتوقع بين المنظومة الاجتماعية من ناحية والمنظومة السياسية القائمة من ناحية ثانية، ويزداد ذلك التوجس تبلورا ليضع امام الجميع طرفا يخاف على الثورة ويغار عليها ويناضل لحمايتها، وطرفا مقابلا يخاف من الثورة ويخشاها ويسعى الى الاغارة عليها، وفي هذه الحالة تحديدا، يصبح الفارق عميقا بين الغيرة والاغارة، ليتحول الى نمط من أنماط التناقض الاساسي الذي ينسف كل محاولات المآلفة أو المصالحة العادلة بين المنظومة الاجتماعية والمنظومة السياسية، اي بين المجتمع الجيوي والمتحرك، والدولة الساكنة والثابتة، وعند هذا المنعطف تحديدا، تبدأ مؤشرات المخاطر والمنزلقات في الظهور... ... ولئن لم تبلغ المخاطر في حالة الثورة الشعبية في بلادنا (اي ثورة المنظومة الاجتماعية سالفة الذكر) تماس التصادم المسلح والمواجهة العسكرية الدامية (لا قدر الله) مثلما آلت اليه الأوضاع في ليبيا الشقيقة، فإن ذلك ليس على الاطلاق، مرادفا لاستكانة المنظومة الاجتماعية او انكماش مكوناتها وخلاياها الحيوية وقلبها النابض، أو نفاذ الأوكسيجين من خزاناتها!! ولطالما كان الصمت بمثابة السكون الذي يسبق العاصفة، مثلما كان قد حصل في مناطق الحوض المنجمي الباسل من جانفي 2008 الى حدود شهر جوان من نفس السنة، ومثلما حصل أخيرا في مدينة سيدي بوزيد الرائدة يوم 17 ديسمبر 2010 وتواصل في كامل أرجاء الوطن الى تفتق ثورة 14 جانفي 2011 المجيدة. فالتاريخ المعاصر للثورات الظافرة في العالم بأسره، قد كشف بأن جدلية الاجتماعي والسياسي ليست بصورة اطلاقية دائمة، جدلية تطاحنية وتصادمية لا مفر منها، بل يمكن ان تكون في ظروف محددة بعينها، جدلية تآلفية وتوافقية عادلة الى حد بعيد، تنأى بالعباد والبلاد عن التناحر المدمر، وتضمن شروط وظروف الوئام الوطني والطمأنينة والتنمية العادلة، وذلك على اساس إنصهار المنظومة السياسية في بوتقة المنظومة الاجتماعية، وهو ما تتولد عنه اللبنة الحيوية الاولى للدولة الاجتماعية الجديدة، أي دولة الثورة، بمعنى دولة الشعب... أي انصهار إخضاع المنظومة الاجتماعية قسرا للمنظومة السياسية القائمة سواءا بالتشريع الاستبدادي أو بالمغالطة المقصودة أو بالقمع المباشر او بالقمع الناعم (وهي الحالة التي عاشتها بلادنا طيلة اكثر من نصف قرن)و فهو يؤول عاجلا او آجلا الى طغيان الحكم الفردي المطلق، الذي يولد بالضرورة واقعا متفجرا من الاحباط والنفور والغضب والاحتقان والشعور بالغبن والمهانة والقهر: وهي العوامل الموضوعية الكافية لأندلاع العصيان المدني والتمرد الاجتماعي والثورة السياسية المنظمة التي لن يكون الرصاص الحيّ الا عاجزا تماما عن امتصاصها او تطويقها او إجهاضها... 3 لماذا يصرّون على حرمان البلاد من أوكسيجين نوعي جديد؟ إن بلادنا التي لم تتمتع بإنجاز انتقال اجتماعي سياسي مدني جذري منذ ثورة جانفي 1952، قد عاشت بهجة عارمة لا حدود لها بتفتق ثورة 14 جانفي 2011 ذات العمق الاجتماعي السياسي المترابط، وهي الثورة المدنية السلمية التي فجّرتها خلايا المنظومة الاجتماعية بعفويتها المنظمة الفاعلة والتي أحيت آمال التونسيين الأحرار وطموحاتهم وتطلعاتهم الشرعية نحو الانعتاق والتحرر والكرامة والأنفة والطمأنينة والعدالة الاجتماعية الكاملة، بعد نصف قرن مظلم من الحكم الفردي والقهر والاضطهاد والفساد والارهاب الفكري الظلامي الخانق للعقل والحضارة والتقدم... كما أن ثورة المنظومة الاجتماعية تدرك تمام الادراك منذ شرارتها الاولى باستشهاد البطل الوطني خالد الذكر محمد البوعزيزي وجميع شهدائها وشهيداتها البواسل، انها ثورة اجتماعية سياسية مدنية تماما وديمقراطية تماما، وانها براء تماما من براثن بورجوازية أصنام 34 وقياصرة 87، وانها متطهرة تماما من كمّاشة السلفية وغياهبها المظلمة... كما أنه من الحيوي ان يعرف جميع راكبي موجة الثورة ومنتحلي مفرداتها وشعاراتها من البلاد الدستوري القديم والجديد الى البلاط السلفي المظلم بمختلف جوقاته ان الثورة ليست إطلاقا ثروة بنكية يجب اقتسامها، وأنها لم تتفتق ليوظّفها البعض نحو تصفية حسابات قديمة، وأن ينبوعها الرئيسي ليس أبدا الهواجس الروحانية او العقائدية او الوجدانية لبعض الأفراد والمجموعات السلفية، بخلاياها المستيقظة والنائمة على حد السواء... كما أن ثورة 14 جانفي لم تأت من أجل «تعديل» أو «تصحيح» بعض مسارات البلاد وتوجهاتها، وتكبيلها بأسلاك تبعية جديدة للقوى الاستعمارية ومناطق النفوذ الامبريالي (الامريكي والفرنسي والايطالي)، بل هي تمثل ملحمة اجتماعية سياسية مترابطة ومتكاملة في قطيعة تامة مع أنظمة الاستغلال والقمع والفساد والظلام السلفي ومستنقع الرجعية بجميع خنادقها، وفي نفس القطيعة الراسخة مع طواغيت الامبريالية... فلقد عايش جميع التونسيين طيلة عقود متتالية ما فعلته البورجوازية الحاكمة بالشعوب العربية في تونس ومصر وسوريا والعراق وليبيا وغيرها، وإستوعبوا الدروس جيدا، كما عاشوا طيلة عقود عديدة ما صنعته السلفية بمصائر الشعوب والأمم والأقليات، بداية من حسن البنّا وسيد قطب والخميني والملالي وحسن الترابي، وصولا الى علي بلحاج وسلفيّي الحلف الاطلسي من طينة صديق اسرائيل الحميميّ أوردڤان العدالة والتنمية... كما ان الذاكرة المشتركة للشعوب والأمم لن تنسى أبدا ما صنعته السلفية بجميع تسمياتها وتلاوينها، بمصائر الناس في الجزائروتونس وأفغانستان والعراق والسودان وايران والباكستان،،، وقد استوعبت الشعوب الدروس جيدا في هذا المضمار... إن بلادنا ظلت طيلة قرون متتالية مهدا ثريا للحضارات الفاعلة والفكر المتنوّر المعاصر، وما تزال الى الآن كنزا أصيلا تتدفق منه العقول الرفيعة والطاقات الشابة المستنيرة والأدمغة البنّاءة المفعمة بالوطنية والعاشقة للأرض... ولقد تفتقت ثورة الحرية والكرامة امام تلك العقول والطاقات والأدمغة حتى تشمّر على ساعد النضال الحازم الدؤوب من اجل تحرر الشعب وانعتاقه من طغيان المنظومة السياسية المستبدة، ومن جبروت المنظومة السلفية بجميع تسمياتها، وذلك بضخ أوكسيجين نوعي جديد في البلاد يعيد للشعب كرامته وللوطن قداسته، ويكرم الشهداء الابطال. 4 السفلية: زيغ واعِ ومنظم عن الإسلام الاجتماعي لقد أغرقتني إحدى تلميذاتي المتحجّبات ذات يوم في حيرة وذهول، لما أعلمتني أنها تابعت على إحدى الشاشات العربية، وبرنامجا وثائقيا حول حسن البنّا والاخوان المسلمين في مصر، وحينما سألتني ببراءة جلية: «بما انه يوجد إخوان مسلمون في مصر، هل يوجد في فرنسا إخوان مسيحيون؟»... وما كان مني الا استطراف سؤالها وحيرتها... ثم أجبتها بالنفي! وفي الحقيقة، فإن تلك الحالات المتنوعة من الهواجس النفسية والتبرم الوجداني، ليست سوى قطرة من بحر، خصوصا في صفوف الشباب والطفولة من تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية والاعدادية ومن طلبة الكليات وطالباتها، وهو ما يمثل تماما حالة غير صحية بالمرة تدعو بإلحاح الى يقظة وطنية استثنائية من جانب القوى المتنورة... فالاسلام كما يعلم الجميع ظل طيلة اكثر من أربعة عشر قرن وسيظل مع الأزل دينا لجميع المسلمين والمسلمات في كامل أرجاء العالم... كما أنه ظل على امتداد قرون، دينا اجتماعيا صرفا، اي دين المجتمع بكافة مكوناته وأجياله وعصوره. ولأن الاسلام على غرار جميع الأديان والديانات الاخرى حجر من بنيان المنظومة الاجتماعية عريضة، فانه يمثل، في الوعي الجماعي للشعوب والأمم والأقليات، دينا من الحياة، وليس على الاطلاق دينا للحياة، وذلك لأن المنظومة الاجتماعية التي ينتسب إليها الدين، هي منظومة متحوّلة ومتحركة بالضرورة، شاء من شاء وأبَى من أبَى، وهي القاعدة الموحدة التي تنسحب على جميع الأديان بلا استثناء... كما أن تسييس الأديان وتديين السياسة، قد مثّلا معا منذ بدايات حسن البنّا وصولا الى حسن الترابي ومشتقاته وجهين لعُملةٍ واحدة، وهي الزيغ عن مرتكزات الاسلام الاجتماعي المتعارف، نحو متاهات هاجسية صرفة تسيء إلى السياسة والأديان في الآن نفسه، من ذلك تلهية الافراد والشعوب والامم عن قضايا المصير البشري المشترك المتعلقة بالاستغلال الطبقي والاستعباد الاقتصادي والجور الاجتماعي والفساد الثقافي والأخلاقي وجبروت الامبريالية والاستعمار الجديد... ... فبالله... بالله... متى سيتجزأ السلفيون (وأوّلهم شيوخ الاتجاه الاسلامي) على إقناع ضمائرهم بأن الأوطان للشعوب فقط وأن الأديان لله وحده فقط، وأنهم بجميع أجيالهم ليسوا سوى مسلمين كجميع المسلمين في تونس وأندونيسيا والعراق وتركيا والصين وسوريا والهند ومصر؟ ثم متى يتجرؤون بجزء من شهامة أبي بكر الصديق وبقليل من شجاعة خالد بن الوليد، على اتقاء الله وحده في شعب مثقف ومتنوّر أكثر مما يتصورون، وذي حضارة راقية وتاريخ مجيد أصيل، ويتوق منذ ثورة علي بن غذاهم سنة 1864 الى مصابيح النور الوضاء والانعتاق والتحرر من كل أنواع الأغلال مهما كان نوعها ومهما كان مصدرها ومرجعيتها، لأنها شعب أول بلد في العالم ألغى نظام الرقّ والعبودية؟ ثم متى سيتوفّق شيوخ السلفية القدامى والجدد في إقناع عقولهم وهواجسهم وأعصابهم بأن التمادي في حشر الأديان في السياسة يمثّل على وجه الدقة، تماديا في تدنيس الأديان نفسها، مثلما ان الزجّ بالسياسة في مربع الأديان يمثل تلويثا فظيعا لها: فالسياسة تدنّس الأديان، مثلما أن الأديان تلوّث السياسة، من ذلك ان الاديان مقدسة والسياسة غير مقدسة، والأديان ثابتة والسياسة متحركة، والأديان أديان (جمع دين) والسياسة نظريات: ولكل واحد منهما عالمه الخاص به، ومجاله الحيوي الخاص به وآلياته الخاصة به، ولذلك لا يجتمعان معا إطلاقا، اللهم من باب الخور والخويف، أو من باب القسر والاستبداد والرصاص الحيّ والديناميت والمدافع والصواريخ: فالعالم العريض الهائل الذي يفصل على أرض الواقع، بين السياسة والأديان، أوسع مئات المرات من العالم العريض الذي يفصل على سبيل المثال بين الفيزياء النووية وكرة القدم... كما انه من الحيوي للغاية واكثر من اي زمن مضى (لأن الامر يتعلق بمصير بلاد ومستقبل شعب بكاملة)، أن نستوعب جميعا أن ركوب السلفية موجة شعارات ومفردات الحركة الاجتماعية والديمقراطية قبل ثورة 14 جانفي وبعدها على حد السواء لا يندرج بأية صورة من الصور ضمن ما يسمى باطلا «مراجعات فكرية وتعديل في الاساسيات»، بل فقط ضمن مخاتلة مخادعة ضخمة تم تسويقها وترويجها داخل النسيج المدني والاجتماعي للعديد من البلدان العربية وحتى غير العربية، بداية من حسن البنّا في مصر وسوريا، مرورا بالصادق المهدي وحسن الترابي في السودان، ومحمود الزهار وخالد مشعل في فلسطينالمحتلة، وصولا الى الخميني ورفسنجاني وأحمدي نجاد في ايران الفارسية، وهي المخاتلة المدروسة التي لا تعمل الا لغاية وحيدة، وهي الانقضاض على الدولة والاستيلاء على مقاليد السلطة باسم الدين الذي حوّلوه الى جلباب مقنّع... ... وضمن هذا السياق تحديدا، تتذكر الشعوب جيدا كيف انقلب الخميني وقياصرته الشيوخ بعد استيلائه على الدولة بمؤازرة أساسية من أمريكا وفرنسا على جميع القوى الوطنية والاحزاب الديمقراطية الايرانية التي أنجزت أدوارا حيوية وفاعلة في اسقاط امبراطورية الشاه، وقابلها بالاعتقالات والسجون والاعدامات الدموية، بل أقدم على التنكيل حتى بالقوى والشخصيات المعارضة من داخل النظام االفارسي نفسه، وفي النهاية، اصبحت ايران وشعبها بين كمّاشة مؤسسة دينية أخطبوطية استبدادية أشنع ألف مرة من استبداد الشاه المنهار ودولته وأجهزة مخابراته سيئة الصيت... ... إن تفكيك أبجديات السلفية والتدقيق في رصد مرتكزاتها وثوابتها غير القابلة للمراجعة، والبحث الحازم المبدئي في ثنايا نشوئها ونموّها وأهدافها الحقيقية، ليس على الاطلاق من باب محاكمة النوايا داخل الصدور أو إصدار الاحكام المسبقة الاعتباطية... إطلاقا لا: بل أن التاريخ وحده هو الناطق الرسمي الوحيد للأحداث والوقائع والتقلبات والمآسي... أما الإصرار على حشر سلفية الاخوان حشرا ضمن بوتقة قوى الديمقراطية والتحرر والكرامة، والتعامل مع شيوخها ورموزها القدامى والجدد على ذلك الاساس الباطل تماما، فهو لا يندرج الا ضمن منطق المراهنات الواهية والأوهام الطفولية القاصرة والحسابات الانتخابوية الرجعية المقرفة التي لا تبعث الا على الامتعاض الشديد... إن أبناء وبنات تونس صنعوا ثورة 14 جانفي المجيدة واحتضنوها وابتهجوا بها وحصّنوها جيدا وسيظلون في حمايتها، من اجل الكرامة والتحرر، وليس إطلاقا لاستبدال ديكتاتورية الجنرال الدموي الهارب بإرهاب الجنرال حسن البنّا وأحفاده الأشدّ دموية.