الخوض في الشأن العام للبلاد وخاصة الخوض في الوضع السياسي الراهن جعل الجميع يغفلون الشأن الثقافي ومعاناة المبدعين والمثقفين، حيث تحولت دور الثقافة إلى قاعات تعقد فيها الاجتماعات الحزبية، واكتفت جل الوسائل إن لم نقل كلها ببعض الحصص التنشيطية التي تسلط الضوء على فئة قليلة من المثقفين وهي تقريبا نفس الفئة التي نالت حظها في الماضي. المواطن التونسي بدوره انساق وراء تيار السياسة الجارف وأهمل كلّ ما له علاقة بالمعرفة والإبداع والأدب والفكر والفن. كما أن المثقف ذاته خرج أو يكاد يخرج من دائرة الثقافي إلى دائرة السياسي نظرا إلى ما يتكبّده من مشاقّ حتى يرى إنتاجه النّور. وسيطرة السياسي على الثقافي وتدهور الثقافة سمة تميز العالم العربي عن غيره. ويتجلى ذلك في القطيعة الحاصلة بين المواطن العربي والإنتاجات الثقافية وخاصة منها الكتب والكتاب الثقافي والعلمي على وجه مخصوص. هذا ما أكدته جميع الدراسات والتقارير المتعلقة بمسألة المطالعة، ومن بينها تقرير مؤسسة الفكر العربي الذي أكد أنه هناك كتاب واحد يصدر لكل 12 ألف مواطن عربي في حين يصدر كتاب ل900 ألماني و500 لكل انجليزي. وبذلك لا يتجاوز معدل المطالعة في العالم العربي 4 بالمائة من معدل القراءة في انجلترا. 57 بالمائة من التونسيين لم يدخلوا مكتبة قط ثلاثة أرباع التونسيين لا يعرفون المكتبات ولم تطأ أقدامهم مكتبة يوما ما ولو بالصدفة. ولا غرابة إن علمنا أن ربع التونسيين أو 25 بالمائة من غير الأميين لم يجرؤوا، طيلة حياتهم، على تصفح كتاب. فتونس ليست بمعزل عن محيطها العربي، إذ تظهر القطيعة بين المواطن التونسي والكتب جلية. وذلك ما توصلت إليه كل الدراسات الميدانية المنجزة في هذا الصدد. وهذا أمر عاديّ إذا اعتبرنا أن هؤلاء يمارسون هواية المطالعة في بيوتهم أو في المقاهي وفي وسائل النقل العمومي وفي الحدائق العامة وفي غيرها من الأماكن، لكن هذا ليس من عادات ولا من طباع ولا من شيم المواطن التونسي الذي لا يخصص سوى قدر زهيد من ميزانيته لاقتناء الكتب. ولا عجب في ذلك إن كانت ميزانية وزارة الثقافة والمحافظة على التراث من أضعف الميزانيات مقارنة ببقية الوزارات. غلبة السياسيّ على الثقافيّ تخصيص ميزانية ضحلة لوزارة بأهمية وزارة الثقافة هو خيار وتوجه سياسي بالأساس. وقد توارثت الحكومات التونسية نفس الأسلوب في التعاطي مع كل ما يتعلق بالإبداع والفكر والثقافة عموما. ففي الماضي تم تطويع المثقف لخدمة النظام كما تم استغلال مندوبيّات ودُور الثقافة لنفس الهدف وعوض أن يتم دعم المبدعين من كتاب وشعراء وفنانين ومفكرين نهبت الأموال. نُهب جزء من الأموال المرصودة لهذا القطاع وصرف جزء على تظاهرات التجمّع المنحلّ ولم يتبقّ للثقافة سوى النّزر القليل. وهو ما ساهم بشكل كبير في تعميق عزلة المثقف وأحدث قطيعة بينه وبين مجتمعه وواقعه. نفس التمشّي ونفس طريقة التعامل مع المبدعين مازالت قائمة إلى يومنا هذا. فالمؤلف كاتبا كان أو شاعرا لا يتمتع بأيّ نوع من الدعم في حين يُمنح الناشر، وهو الرابح الرئيسي من العملية الإبداعية، دعما ب70 بالمائة. كما يعاني المبدعون عموما من رسامين ونحّاتين وفنّانين وشعراء وغيرهم من صعوبة كبيرة في توزيع إنتاجاتهم التي لا تدرّ عليهم سوى قدر بسيط من المال مع العلم أن الكثير منهم يشْكون من البطالة ولا يتمتّعون حتى بأبسط حقوقهم مثل التغطية الاجتماعية. التصحّر الثقافيّ عدم ربط العملية الإبداعية بالعملية الإنتاجية وبالعملية التنموية هي من أهم أسباب التصحر الثقافي وتدهور الثقافة عموما. وهذا ليس بالصدفة أن الارتقاء بالوعي الاجتماعي وبثقافة شعب ما أو جماعة ما أو أمة ما يتطلب إرادة سياسية وقناعة راسخة بأن أساس كل رقيّ اجتماعيّ وتقدم اقتصادي وانفتاح سياسيّ ونهوض فكريّ وعلميّ وأدبيّ يمرّ حتما عبر بوابة الثقافة والإبداع الحرّ. لكنّ مسألة تبنّي سياسة ثقافيّة تحدث تغييرات جوهرية وترتقي بمستوى الفرد والمجتمع لم توضع بَعْدُ على طاولة النقاش ولم تدخل إلى قاعة عمليات من ساسوا البلاد في الماضي ومن يسوسونها اليوم. ضآلة الإنفاق على الثقافة والإبداع والفن هو أمر مقصود. وحالة التصحّر المعرفي والثقافي والفكري أول من يتحمل مسؤوليته سلط الإشراف وحكام البلاد الذين نسوا أو تناسوا أنّ من أهمّ الحلول للنهوض بالوضع المتردّي الذي تمر به البلاد يكمن في الدعم المتواصل وغير المشروط لكل نفس إبداعي ولكلّ فكر مبدع ومجدّد يقطع مع الدّجل والخرافة، فالشعوب لم تتقدّم إلا حين اتبعت مفكّريها ومبدعيها ومثقّفيها في كل المجالات. ولا يجب أن ننسى أن الثقافة هي جوهر كلّ تقدّم ورقيّ وازدهار، بها تخطو الشعوب خطاها الأولى نحو نهوض حقيقيّ وتطوّر فعليّ، ودونها تتقهقر وتتخلّف وتُسْتَعبدُ.