تعيش بلادنا أزمة سياسية خانقة بعد أن اجمع طيف واسع من القوى السياسية على فشل الترويكا في إدارة أمور الحكم. هذا الوضع السياسي الخانق لا يهدد المسار الانتقالي فقط بل يمس الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تضرر أكثر من أي وقت سابق نتيجة عدم وضوح الصورة وتدهور الوضع الأمني والسياسي. وقد تعالت عدة أصوات تنبه من خطورة الوضع الاقتصادي واتجاه تونس نحو مرحلة كارثية. ورغم أن مؤسسات الدولة وخاصة البنك المركزي كانت من الأصوات المحذرة من خطورة الوضع فان معهد الإحصاء اصدر منذ أيام أرقاما تؤشر على تحسن الوضع الاقتصادي وتحق?ق نسب نمو في عدة قطاعات، وهو الأمر الذي لا يتفق كثيرا مع أراء الخبراء والمحللين. ولمعرفة حقيقة واقع الاقتصاد التونسي التقت الشعب الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي منجي السماعلي فكان الحوار التالي: كيف تقييم واقع الاقتصاد التونسي؟ - ما يمكن ملاحظته من خلال الأرقام المقدمة من طرف المعهد الوطني للإحصاء هو نمو الاقتصاد بنسبة 3.2 بالمائة، وهو أمر جيد في العموم. كما تبين الأرقام أن النمو ناتج عن تطور الخدمات غير المسوقة والتي حققت نسبة نمو ب6.3 والخدمات المسوقة بنسبة 4.3. في المقابل نجد نسبة نمو سلبية في قطاع الفلاحة بنسبة 03 بالمائة والصناعات غير المعملية ب0.6 بالمائة. ما يمكن ملاحظته في علاقة بنسبة النمو هو كونها متأتية أساسا من الخدمات غير المسوقة أي من الخدمات الإدارية. وعلى اعتبار أن الخدمات غير المسوقة تقاس بتكلفتها أي أجور الموظ?ين، فان نسبة النمو تفسر أساسا بتطور عدد الانتدابات وارتفاع الأجور وهو ما يفسر النمو الاقتصادي. غير أننا نلاحظ في المقابل أن القطاعات المهمة قد سجلت نسبة نمو سلبية ونذكر بالخصوص قطاع الفلاحة. هذا التراجع في النمو لا يبشر بخير و ستكون له انعكاسات وخيمة على ميزان الدفعات لأننا نستورد المواد الغذائية وأساسا الحبوب. وتجدر الإشارة إلى أن الأرقام المقدمة تمثل نسبة النمو بحساب الانزلاق أي مقارنة نفس الفترة من سنتين مختلفتين، هذا الحساب قد لا يكون دالا بشكل دقيق على واقع الاقتصاد خاصة وقد تساهم ظروف اقتصادية استثن?ئية في إعطاء نسب لا تعكس حقيقة النشاط الاقتصادي عموما. هل تعني بكلامك أن الانتدابات كانت العامل الأساسي للنمو الاقتصادي؟ - هذا صحيح فالمؤشرات الاقتصادية والمعطيات التي قدمها المعهد الوطني للإحصاء تؤكد الخدمات الإدارية أي تطور عدد العاملين في الإدارة وتطور الأجور كان أهم دوافع النمو الاقتصادي. ومن المعروف أن تطور عدد الوظائف قد ينشط الحركة الاقتصادية عبر الاستهلاك الذي يمثل أهم عوامل النمو الاقتصادي. غير أن هذه الأرقام قد تشوش القراءة الاقتصادية على اعتبار أن غلاء الأسعار وتعطل حركة الإنتاج لا تظهر بوضوح من خلال الأرقام حول النمو وهو ما يعني أنها لا تعطينا فكرة واضحة عن حقيقة الاقتصاد التونسي. والملاحظ هنا أن نسبة النمو ب3.2 ?المائة لا تمثل نسبة مريحة ولا يمكن من خلالها تحقيق مطالب الشعب التونسي في التنمية والتشغيل ونذكر جميعا أن الانتفاضة حصلت وقد كان اقتصادنا يحقق نسبة نمو تقارب 05 بالمائة وهو ما يعني أن نسبة النمو الحالية غير كافية لحل المشاكل. وقد تكون أخطاء الحكومة أهم أسباب وصول الاقتصاد التونسي إلى هذا الوضع. فلو تعاملت الحكومة بالشكل اللازم مع مشكل الحوض المنجمي ونجحت في تامين استمرار إنتاج الفسفاط ولو نجحت في تامين الموسمين السياحيين لكان الوضع الاقتصادي أفضل بكثير. هناك من يريد تفسير الأزمة بارتفاع الانتدابات فما مدى صحة هذا الكلام؟ - هذا الكلام فيه جانب من الصحة فإذا تعطل الإنتاج وتراجع النشاط الاقتصادي تقل موارد الدولة ، وفي هذه الحالة قد تكون الدولة مجبرة على الاقتراض لدفع الأجور مقابل ركود اقتصادي وسيكون لذلك انعكاس سلبي على المالية العمومية على المدى القريب وعلى النمو الاقتصادي على المدى المتوسط والبعيد. وتجدر الإشارة إلى انه لا يجب أن تتحمل الإدارة العبء لدفع النمو عبر الطلب، خاصة وان العدد الزائد من الموظفين سيؤدي إلى تراجع إنتاجية الخدمات العمومية. وفي اعتقادي أن دفع الاقتصاد يكون عبر الاستثمار لان الانتدابات قد تدفع النمو ول?ن تكلفتها مرتفعة. ولكن الوضع السياسي قد لا يشجع على دفع الاستثمار - بطبيعة الحال فان الاستثمار لا يمكن أن يتطور ويتقدم إلا في إطار مناخ من الثقة. في هذه المرحلة نجد أن الاقتصاد التونسي مرتبط بقوة بالعامل السياسي ويبدو أن عامل الثقة مفقود لذلك فان مطالب اغلب الأطراف السياسية، باستثناء حركة النهضة تتضمن مطلب تغيير الحكومة وذلك لدفع الثقة التي تستوجب حكومة كفاءات ذات برنامج واضح ترسل إشارات طمأنة. فتغيير الحكومة سيكون دافعا نحو طمأنة المستثمرين. فحكومة الكفاءات لن تصلح الاقتصاد بين عشية وضحاها بل ستكون عامل ثقة في الاستقرار السياسي على المدى المتوسط والبعيد وهو ما يطمئن ال?ستثمرين ويدفعهم للاستثمار. وللإشارة فان مؤسسات الترقيم المالي تخفض ترتيب تونس في كل مرة لان المشهد السياسي ضبابي ولا يوحي بالثقة. كما لا توجد مؤشرات توحي بالثقة وإذا ما أضفنا الواقع الإقليمي المحيط بتونس فان المجهود السياسي يجب أن يكون مضاعفا للطمأنة. ما هو دور الدولة في المرحلة القادمة في دفع الاقتصاد التونسي؟ وهل يمكن التعويل على اقتصاد السوق؟ - يمثل هذا الموضوع محل اختلاف بين رجال الاقتصاد فهناك من يريد التعويل على آليات السوق ومن يرى ضرورة تدخل الدولة. وأنا شخصيا مع تدخل الدولة كمستثمر وفاعل اقتصادي. في هذه المرحلة وخصوصا في المناطق المهمشة لان المستثمر لا يذهب إلى تلك المناطق التي لا تحقق له الربح الذي يريده. لذلك فان الدولة مطالبة بتحمل المسؤولية في الاستثمار بنفسها وهو ما يمثل عاملا مهما لدفع الاستثمار الخاص. ويمكن لها بعد ذلك إذا قدرت أن الاستثمار تطور بالشكل اللازم، أن تخوصص مشاريعها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أزمة الرهن العقاري سنة 2008 ?رضت تدخل الدولة عبر تأميم عدد من الشركات لإنقاذها من الإفلاس وهو ما يعكس أن تدخل الدولة أمر ضروري لحماية الاقتصاد ولدفع النمو خاصة في ظل الأزمات. في ظل توفر كل الشروط الممكنة كم يلزم الاقتصاد التونسي من الوقت ليتعافى؟ - في الحقيقة تحديد حيز ومجال زمني يستوجب دراسة الدورة الاقتصادية وهناك مؤسسات مختصة في هذا المجال. ولكن يمكن القول أن تعافي الاقتصاد التونسي مرتبط بعامل داخلي متعلق بمدى قدرة عجلة الإنتاج على الدوران وعلى استرجاع نسقها وبعامل خارجي مرتبط بتحسن الوضع الاقتصادي على المستوى الإقليمي والدولي وخاصة الاتحاد الأوروبي. ولا بد هنا من الانتباه إلى وجود عامل إضافي يؤثر في الوضع الاقتصادي علاوة على الاستقرار وتحسن المناخ العالمي وهو الإرهاب الذي أصبح امرأ واقعا وعدوا لتونس. فدخول الإرهاب على الخط زاد في تشويش ال?شهد الاقتصادي بحيث أصبح من الصعب الجزم بموعد انتهاء المعركة ضد الإرهاب أو قدرة تونس على التصدي له. فالمعركة ليست هينة. وفي اعتقادي الشخصي ورغم غياب الحسابات الدقيقة فان أفق تعافي الاقتصاد التونسي لن يكون اقل من 05 سنوات.