المتفق عليه في الحركة التنموية ان البحث النظري يعزلنا تماما عن عالم التكنولوجيا، وبهذا المفهوم يمكن القول ان البحث التنموي هو الذي يجعل عجلة النمو المعرفي والتكنولوجي تدور الى الامام. وهو مصدر القيم التي تتحكم في سلوك وافكار الباحث وتحدد صورته وطبيعة دوره في طرح وتوضيح عناصر الغموض المستعصية على الفكر في كسر حاجز الصمت عن ابرز التحديات التي نواجهها للنهوض بأوضاعنا وتدعيم قدراتنا في البناء التنموي والقدرة التنافسية وتحقيق التكافل بيننا، وفي تقييم أوضاع الاطراف المساهمة في انجاز التنمية وتقديم تجارب ناضجة نجدان الباحث عرف خلال العقود الماضية تحولات ملحوظة على مستويات عديدة من حيث المكانة الاجتماعية والادوار الوظيفية التي يقوم بها في مجال ترجمة المشروع التوجيهي، وفي مجال ضبط المؤسسات التي تستمد قيمتها وتميزها من المستور التشريعي المتعلق بالابداع المعرفي والتكنولوجي لرفع التحديات الكبرى وكذلك في مجال الاعلام حول النجاحات في أداء الادوار الوظيفية وهذا يدل على ان في دور الباحث اشعاعا لا يمكن نكرانه فهو مصدر نشر الوعي وصحوة الضمير وتبديل الافكار وتغيير العقول فمن دوره الفاعل يستمد القدرة على مواجهة الصعوبات والعراقيل والتغلب على الضعف. الحوار حول سياسة التشغيل الحوار يتكرر في كل سنة عند خروج الطلبة من الجامعات والمعاهد العليا الى سوق الشغل وفي هذا السياق المصدر الاعلامي يرتكز على تجارب في مجالات الطلب الاضافي ، البطالة والتشغيل ويسلط الاضواء اللازمة للتحليل وتقييم طاقة الاستيعاب على مستوى المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص ، حسب الاهداف والغايات التي ترمي الى تحقيقها الحكومة ، وهي طريقة من الطرق لبلوغ غايات طموحة ، وفي هذا الاطار المحوري يبدو لي ان القواسم المشتركة بين الاطراف في الرأي على من يتولى توزيع الادوار وفسح المجال امام الكفاءات لتعبّر عن افكارها وتكشف عن مواقفها وتبرز حرصها على تكريسها والتمسك بها والدفاع عنها.تبقى حاجيات الاقتصاد الوطني مطروحة بين مشروع الخوصصة اي الانتصاب للحساب الخاص الذي تقترحه خطة التشغيل على طالبي الشغل ويبقى العدد الاكثر في انتظار عمل مهما طالت سنوات الانتظار. القضية الاساسية التي تقرب او تفرق بين اطراف الحوار حول سياسة التشغيل هي استراتيجية مشروع التشغيل. استرتيجية التقليد والاتباع الجاري بها العمل والتي تعطي فرصة أكثر للانتصاب للحساب الخاص والمشاركة في التنمية وفي كسب الحياة. استراتيجية الاستنباط والاضافة لبلوغ الاهداف الطموحة في مجال البدائل للمواد الاولية والتكنولوجيا لبناء المستقبل بالاعتماد على الذات باعتبار قوام حياة البشر هي الحرية الخلاقة. خاصة أن الحوار يتمثل في احتكار البيرقراطية لحظة التشغيل حيث انها صاحبة القرار دون ان تعطي حقيقة فعلية وتحرص على اقناع الحكومة بها. وهذا ما يحدث في كل مرحلة من مراحل الحوار حول ما جعل عجلة التشغيل تدور الى الوراء.ولعل هذه العجلة هي التي ستدفع بنا الى التقرب لا الى التفرق. التقرب بدل التفرق ولتحقيق هذه الغاية لا بد من الكشف عن اسباب الحوار الغامضة وهو ما يجعل مشكلة البطالة لا تقدم من طرف واحد وانما من منظور اطراف متعددة وتغيير زاوية النظر بشان التعليم العالي وتبسيط ما يجري داخل الجامعات والمعاهد العليا التي تمثل موطن الفكر والتعبير عن متطلبات الحياة والوجود برؤية واضحة إيمانا بضرورة التقدم والتغيير . وكذلك موطن البديل الا مثل لتجسيم الافكار النيرة والارادة القوية والإيمان العميق بفرض الذات والكفاح من أجلها. ورغم هذه الرؤية التي تدل على قوة التأثير في تغيير المفاهيم والسلوك والافكار والمواقف، فإن النتيجة المنتظرة لا تخلو من الضبابية التي تحجب الرؤية وتلف المستقبل من جوانبه الديناميكية. وهو ما جعل العلاقة بين الميدانين المعرفي والتكنولوجي محكومة بالتوتر والاضطرابات ومحاطة بالغموض والتستر على الضعف فمن يتبعها ويسعى الى توضيحها لا تفضي به إلا الى الوقوع في مظاهر معاناتنا. مشروع الخطة الوطنية لحل ازمة البطالة يقدم من منظور معين ومفهوم من المفاهيم لبلوغ غاية استبطان ثقافة الانتصاب للحساب الخاص في عقول خريجي التعليم العالي بالمفهوم النظري. المشروع يحمل رؤية واضحة لتحدي البطالة والتغلب عليها ، ولكن بالمفهوم التنموي فان المشروع في حاجة الى فسح المجال لتعدد وجهات النظر لمعرفة اسباب اختلاف الآراء حول إحداث مؤسسات التقليد والاتباع للحساب الخاص وهي مؤسسات استهلاكية لا تساهم فقط في حل ازمة البطالةبل في ارتفاع حجم الواردات وحجم التداين الخارجي. وهذا سبب من اسباب ازمة البطالة وهو ما يجعلنا في موقع التساؤل عمّا ابدعناه من قيم وما انتجناه من افكار ثم ما اقترحناه من افعال. ما يهمنا في هذا الموضوع هو استبطان ثقافة الانتصاب للحساب الخاص نتيجة طغيان الرؤية النظرية التي لا تجسم معاني السيادة والحرية الخلاقة ولا علاقة الكفاءات بمكانة البحث التنموي في ارساء استراتيجية دفع المبادرة الفردية والجماعية واحداث المؤسسات ذات المحتوى المعرفي والتكنولوجي والقيمة المضافة العالية والقدرة التنافسية الرفيعة التي تفتح آفاقا واسعة لمجابهة تحديات البطالة. اسباب انتهاج استراتيجية التقليد والاتباع اسباب عديدة قد تفسر انتهاج استراتيجية التقليد والاتباع المعرفي والتكنولوجي منها ما جاء في عروض سابقة حول التستر على الضعف المعرفي والتكنولوجي والعجز عن التغلب على الصعوبات والعراقيل ... وكلها افصحت عن الاشياء كما هي في الواقع برؤية واضحة عن صورة نموذجية للباث العربي في مجال البحث العلمي. وهذه الصورة تستمد عناصرها من تعدد وتعقد مستويات الازمة فيها فهي على الاصعدة البسيكولوجية والمعرفية والتكنولوجية والثقافية الحضارية ، وقد تضافرت كل هذه المستويات لتجعل التنمية تسير بخطوات متعثرة تحت ضغوط المشاريع الاستهلاكية وهيمنة الخارج. وهذا يعني ان القيم تسلحت بها الكفاءات في المجالين المعرفي والتكنولوجي خلال مراحل التعليم العالي في الخارج او في الداخل غير كافية لارساء استراتيجية الاستنباط والاضافة واحداث مؤسسات صناعية. وكل هذا له تأثير سلبي على افراد المجتمع في سلوكهم وافكارهم ومواقفهم ومفاهيمهم لتحول محتوم يواجهه كل مواطن دون ان يستطيع معالجة الازمة التي وقع فيها ودون ان يسعى الى الكشف عن اسبابها الغامضة وتفسير ما يعيشه من بؤس مادي ومعنوي ويزداد شعوره بالعجز أمام القوة التي تفرض عليه سلطانها وتقرر مصيره في هذا الواقع ، الباحث في مجال البحث التنموي هو جزء من المجتمع ولذلك فان ما يتعرض له هذا المجتمع يمسه بطريقة او باخرى فكلنا نلاحظ ان التحديات التي يواجهها الباحث التونسي مضاعفة لانها تحديات كثيرة وسريعة نتيجة ما يمرّ به العالم من تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وهذه التحولات تتميز بالكثافة والغموض بسبب تراجع فرص وامكانيات البحث العلمي خاصة في العالم العربي ، وهذا التراجع الخطير في العالم العربي جسد قلة الادراك العميق بأهمية دور الكفاءات المبدعة في اصلاح البحث العلمي . ان نظام البحث العلمي مازال مرتبطا بطريقة قوية بنظام التبعية خاصة في المجالين المعرفي والتكنولوجي وهذا ما يجعل الباحث الخاص في مجال البحث التنموي يعاني على المستوى الميداني في تونس من العراقيل في اقناع المسؤولين بضرورة تطبيق القانون الدولي الذي دخل حيز التنفيذ في البلدان النامية منذ سنة 2000 لأن هذا القانون يخدم التنمية ويحمي مصالح بلادنا من القرصنة. المقصود في هذا الغرض هو تسليط الاضواء على ما سن من القوانين التي تتعلق بالعلم والتكنولوجيا لتجسيم العدل والانصاف وترسيخ القيم الانسانية الاساسية التي تؤهل المواطن لمواجهة التحديات وكسب الرهانات في اطار علوية القانون. وما يهمنا هو تحديد هدف هذه القوانين التي تتحكم في حشد وتوزيع الدعم المادي للنهوض بقطاع البحث التنموي والقطاع الصناعي لبناء المستقبل بالاعتماد على الذات. ان القانون الجاري به العمل في توزيع الدعم المادي للنهوض بالبحث التنموي واحداث مؤسسات صناعية، وهو ما يمثل 5,1 من المنتوج الداخلي الخام، لا يخدم مصالح الدولة ولا مصالح الباحث التونسي عن البدائل للمواد الأولية والتكنولوجيا. وبفضل هذا القانون جسدت الادارة التقاليد العريقة في حشد الاستثمار وتحويله الى الخارج للحصول على المواد الأولية والتكنولوجيا لإرساء مجتمع استهلاكي . وهذا الواقع يدل على النقص الفادح في تمكين حاملي طاقة العطاء ابداعا للمساهمة في اخذ القرار لتحويل الواقع نحو الافضل. والمؤكد ان هذه النقائص الناجمة عن البيرقراطية هي نقطة ضعفنا. فلا حوار، ولا تشاور، ولا تلافي، ولا تفاعل بالطبع ينبغي النظر الى كل الاشكاليات المتصلة بهذه البيرقراطية وفق رؤية العقل لا وفق رؤية العاطفة، دون مبرر للاقصاء على حساب الحرية الخلاقة. دولة المؤسسات ان دولة المؤسسات هي دولة الوحدة الوطنية والمشاعر الوطنية التي تعزز اشعاعها الدولي بفضل اسهامات مبدعيها ومثقيفها وشعبها في جهود التفاهم والتضامن والتواصل الحداثي والتقارب بين الدول وشعوب العالم ، وفي هذا الاطار عندما نتكلم عن دولة المؤسسات لا يمكن ان يغيب عن الذهن ان المؤسسة هي ثقافة سلوكنا التي تعدل سلوكنا وتوزع الحقوق والواجبات على أفراد المجتمع بطريقة عادلة، وهي المسؤولة عن عدم التوازي بين الثقافات الثلاث : الثقافة المادية (La Culture materielle)والثقافة الفكرية ( La Culture Spérétuelle) وثقافة السلوك (La Culture du Comportement) . إن قانون البحث العلمي الجاري به العمل في بلادنا هو وليد طغيان احساس عميق داخلي بالضعف المعرفي والتكنولوجي مقابل فسح المجال للتقليد والتبعية دون شعور بالخطأ وخطورة المهمة وتحويل الاستنباط والاضافة الى مشهد حيرة إزاء ما يحدث على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي. في كل البلدان العربية نجد إدارة البحث العلمي في صراع مرهق على المناصب للتحكم في سياسة الدولة ولا حاجة للتذكير ان المجتمع المثقف، حسب الاتجاهات، وقع في شراك معركة التحرير الداخلي التي اسقطت الخيار التنموي وتحولت الى عبء متفاقم على النظام العربي وعلى المجالات المعرفية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاستراتيجية المبدع التونسي بسلاح الدولة. اننا عندما ننفذ الى اعماق المشهد ومظاهر معاناتنا والكشف عن صورة التمرد على كل اشكال البناء المعرفي والتكنولوجي بالاعتماد على الذات والى العوائق القانونية والتأويلات التي تعرقل الحوار الديمقراطي حول استراتيجية كسب الرهانات التي تقتضيها استحقاقات التنمية في مجال التموقع في النسيج العالمي الجديد، إنما نسعى الى ابراز التوجه المؤمن بالدور المستقبلي للمبدع التونسي الذي ارتكز عليه مشروع اصلاح البحث العلمي والاختيارات المطروحة وابراز العناوين الرائدة لما جاء في السياسة الرشيدة لرئيس الدولة. منذ سنة 2000 الى يومنا هذا لا تزال الإدارة رافضة دخول القانون العالمي حيز التنفيذ في تونس لأنه يبرز دور المبدع واهمية ابداعه في الرقي الاجتماعي ومساهمة الدولة بالتشجيعات المادية اللازمة للمبدع ونشر ابداعه في الاسواق الداخلية والخارجية ، وهذا الموقف يحرم تونس ممّا يوفر الابداع من العملة الصعبة ومن الاستثمار الخارجي الايجابي ومن الشراكة المثمرة ، وبهذا الشكل، يشكّ المبدع في قدراته وتدني العلاقات بينه وبين الادارة على مستوى النهوض بالابداع وتوسيع اشعاعه ودعم المبدع ومساعدته على القيام الافضل بدوره الابداعي وذلك رغم أن السياسة الرشيدة لرئيس الدولة تعج بالافكار النيرة والارادة القوية والايمان العميق بالحرية الخلاقة. ولا شك ان كل تونسي يؤمن بهذه القيم يرفض الفكر المتحجر والافكار الجاهزة والشعارات البراقة التي لا تؤجج شعلة الطموح في نفسه. اؤكد، وانا على قناعة راسخة، ان المشروع المستقبلي لرئيس الدولة في امس الحاجة الى ارساء نظام بحث تنموي وانجاز مشروع البدائل للمواد الاولية والتكنولوجيا ومواصلته بثبات على درب الاستنباط والاضافة . وهو ما يجعل من الباحث المرجع في مجال الحرية الخلاقة ، ومن هذه الزاوية يمكن للمواطن التونسي ان يتوجه بمشاعر الاكبار الى كل باحث متمسك بمبادئ العطاء لضمان نقل المعرفة والتكنولوجيا لكي نحقق ارقى المستويات لمقومات التنمية الاقتصادية بما يستجيب لطموحات كل الفئات الاجتماعية . وفي هذا التوجه يمكن للباحث ان يجد نفسه في منزلة الاولوية في تحقيق اهداف المشروع المستقبلي لرئيس الدولة.