عاجل: هذه تفاصيل الأحكام ضد الموقوفين الثمانية في قضية التسفير    قفصة: افتتاح فعاليات الورشة الوطنية للمشاريع التربوية البيداغوجية بالمدارس الابتدائية    عاجل: ألمانيا: إصابة 8 أشخاص في حادث دهس    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تحسّن وضعية السدود    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    مع الشروق : ترامب.. مائة يوم من الفوضى !    أخبار الملعب التونسي : غيابات بالجملة والبدائل مُتوفرة    وزير الشباب والرياضة يستقبل رئيسي النادي الإفريقي والنادي الرياضي البنزرتي    عاجل/ من بيهم علي العريض: أحكام بالسجن بين 18 و36 سنة في حق المتهمين في قضية التسفير..    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    في افتتاح مهرجان الربيع لمسرح الهواة بحمام سوسة... تثمين للمبدعين في غياب المسؤولين    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    لماذا اختار منير نصراوي اسم 'لامين جمال" لابنه؟    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    أجور لا تتجاوز 20 دينارًا: واقع العملات الفلاحيات في تونس    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    معرض تونس الدولي للكتاب يختتم فعالياته بندوات وتوقيعات وإصدارات جديدة    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    تعاون ثقافي بين تونس قطر: "ماسح الأحذية" في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    عشر مؤسسات تونسية متخصصة في تكنولوجيا المعلومات ستشارك في صالون "جيتكس أوروبا"    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على نقّالة، كان جثمان «تشي» يستريح
شهادة ريدشارد قوت: تعريب المنتصر الحملي
نشر في الشعب يوم 27 - 10 - 2007

( واحد من الصّحافيين القلائل الشّاهدين على موت تشي يروي
اللّحظة الّتي قامت فيها القوات العسكريّة البوليفيّة،
بمساعدة ضبّاط أمريكيين وأعوان من المخابرات الأمريكيّة،
بحمل جثمان أرنستو تشي غيفارا إلى قرية فالراند،
حيث «أعدّ» أطبّاء جثّته قبل أن يعرضوها أمام وسائل الإعلام.)
سنة ,1967 أي قبل أربعين عاما, كنت أقيم في سانتياو، بالشّيلي، حيث كنت أعمل بالجامعة، في ذات الوقت الّذي كنت أكتب فيه للصّحيفة اللّندنيّة «ذي قواردين» في جانفي من تلك السّنة، علمت عن طريق أصدقاء لي من اليسار الشّيليّ أنّ تشي غيفارا كان في بوليفيا، وفي مارس، ظهرت أوّل بوادر حرب العصابات. ومنذ شهر أفريل، شدّت ثلّة من الصّحافيين الرّحيل إلى معسكر ننكاهوواتزو Nancahuazu، القريب من مدينة كاميري Camiriالنّفطيّة. ولم يمرّ بعض الوقت حتّى ألقي القبض على فرقة صغيرة، كان من ضمنها ريجيس ديبريهRégis Debray ، خرجت من المعسكر، واقتيدت إلى كاميري. في نفس الفترة، في هافانا، طبعت آخر كتابات تشي، في شكل مصنّف بعنوان لنصنع واحدة، اثنتين، ثلاثة... لنصنع الكثير من فييتنام، وفيه دعوة لليسار الدّوليّ إلى النّضال.
قرّرت أن أسافر إلى بوليفيا للتّأكّد بنفسي من أنّ هذا البلد كان ملائما فعلا لحرب فييتنام جديدة. فنادرة هي الأخبار حول حرب العصابات في بوليفيا على الصّعيد الدّوليّ. إذن، ركبت في أوت القطار العابر لسلسلة جبال الأندAndes ، الّذي كان ينطلق من ميناء أنتوفااستا Antofagastaالشّيليّ نحو لاباز La Pas، مقرّ الحكومة البوليفيّة)1(.
كانت البلاد حينئذ تحت حكم الدّيكتاتوريّة العسكريّة للجنرال راناي بارّينتيس، الضّابط في القوات الجوّيّة، والّذي وصل إلى سدّة الحكم قبل سنتين. ومع ظهور حرب العصابات، أخضعت بوليفيا إلى القانون العرفيّ، وكان الخروج من المدن خاضعا لرقابة العسكر عند الحواجز.
لقد اتّخذت جميع الاحتياطات اللاّزمة: أخذت القطار حتّى أتجنّب المطارات الّتي كانت تحت الرّقابة القصوى، وحلقت لحيتي لأنّ أيّ ملتح كان يشكّ فيه على الفور. كانت فكرتي أن أسافر عبر البلاد متظاهرا بأنّي سائح عاديّ دون أن أسجّل نفسي باعتباري مراسلا أجنبيّا. كان ذلك تقديرا يتجاهل الصّعوبات الّتي لا تحصى، إذ كان من المستحيل السّفر خارج المدن دون ترخيص كتابيّ من القائد العامّ للجيش، الجنرال ألفرادو أوفندو الّذي سيصبح الرّئيس فيما بعد.
استسلمت إذن للأمر وسجّلت نفسي في لاباز، رفقة صحافيين أجانب آخرين، كان من بينهم صديق من Times اللّندنيّة. ذات يوم، أبلغني هذا الأخير بسلوك غريب لصحافيّ دانمركيّ، إذ كان يقضّي ساعتين يوميّا في إرسال تيلكسات في بلاده تتضمّن جميع المعلومات الّتي يجمعها من الصّحافة البوليفيّة، «هل الاهتمام الدّانمركيّ بالشّؤون البوليفيّة إلى هذه الدّرجة؟»، تساءل صديقي الحائر بحقّ. كنت أنا أيضا مدهوشا، إلى حين اكتشفت عرضيّا أنّ الدانمركيّ كان مراسلا يساريّا يرسل أخبارا إلى وكالة Prensa Latina de La Havane، من الدانمرك! سافرت إذن طوال عدّة أسابيع عبر البلاد من أجل تحسّس الجوّ الّذي كان يخيّم عليها، وملاحظة ما إذا كانت بوليفيا حقّا في أوج الطّور السّابق للثّورة. زرت مناجم أوريرو وسيلوفانتي وبوتوزي وجميعها تحت الرّقابة العسكريّة الّتي كانت مداخلها تحت حراسة الجنود المسلّحين، وبطبيعة الحال، كان المسيّرون النّقابيون جميعهم في السّجن، وكان عمّال المناجم يخافون خوفا شديدا من التعبير عن أنفسهم. حاولت أيضا أن آخذ في حسباني وضع الفلاحة. فقد جرّبت بوليفيا ثورة قبل خمس عشرة سنة، أي عام ,1952 وشمل إصلاح زراعيّ كامل البلاد، ولكنّ الفلاّحين لم يكونوا مسرورين. سافرت رفقة فريق من الخبراء في الفلاحة من الأمم المتّحدة، فعبرنا الألبيلانو ونزلنا حتّى تريجا، حيث اكتشفنا أنّ كثيرا من الفلاّحين كانوا يتذمّرون متذرّعين بأنّ عددا من ملاّكي الأراضي قد جاؤوا ليضعوا أيديهم من جديد عليها.
عدت إلى لاباز لإجراء حوار مع سفير الولايات المتّحدة، المدعو دولاس أندرسون، هذا الأخير قرأ في مجلّة «القارّات الثّلاث Tricontinental « رسالة تشي الشّهيرة الدّاعية إلى مثيلات فيتنام، وأسرّ لي بأنّ الولايات المتّحدة كانت تساعد الجيش البوليفيّ عن طريق إرسال المدرّبين العسكريين إليها، ولكن في الواقع، وعلى نقيض ما حدث في فيتنام، لم يكن من الممكن البتّة استقدام فرق عسكريّة أمريكيّة إلى بوليفيا.
وصلت إلى كاميري في نهاية أوت، والتقيت بريجيس دوبريه المعتقل في حجرة بالدّائرة العسكريّة. كما تحادثت أيضا مع ضبّاط من الفرقة العسكريّة الرّابعة، وأبلغوني بأنّ ثوّار تشي قد انتقلوا إلى الشّمال، غرب الطّريق المؤدّية إلى سنتا كروز Santa Cruz، العاصمة الشّرقيّة لبوليفيا، ولكي أكون على علم بما كان يجري على أرض الواقع، كان عليّ أن أتوجّه إلى فالقراند Vallegrande، القاعدة الرّئيسيّة للقوات المعادية للثّورة في الفرقة الثّامنة.
في سبتمبر، سافرت إذن إلى فالقراند وطلبت أن أتحادث مع مسؤول المخيّم، العقيد جواكين زنتانو أنايا Joaquin Zenteno Anaya الّذي سيقتل بعد بضع سنوات في أوروبّا. أعلمني بأنّ فرقة تشي كانت موجودة في منطقة محصورة جدّا وأنّه سيكون من الصّعب جدّا على القائد الثّائر وعلى رجاله النّجاة. روى لي كيف أنّ الجنود قد أحاطوا بقوات تشي، ولم يتركوا لهم سوى منفذ واحد للفرار. وقد أوفد الجيش على وجه السّرعة جنودا إلى المكان متنكّرين في ثياب مزارعين ليبعثوا بإشارة بمجرّد أن يعبر الهاربون من ذاك المنفذ. إنّ تصريحات سكّان ضيعة صغيرة مرّ بها الثّوار قبل بضعة أيّام، وتصريحات ثائرين وقع القبض عليهما وسمح لي بمقابلتهما، ما كانت لتترك أيّ شكّ في هويّة زعيم تلك المجموعة المحاصرة، إنّه فعلا تشي غيفارا»من هنا حتّى أسابيع قليلة، سيكون هناك الجديد»، أكّد لي العقيد زنتانو.
توجّهت نحو سنتا كروز وذهبت إلى المخيّم العسكريّ «التّرجّي»، حيث كانت القوات الخاصّة للولايات المتّحدة. نحو عشرين من المختصّين الأمريكيين الشّماليين كانوا يختفون في مصنع للسّكّر مهجور، مجهّزين بجميع أنواع الإذاعة المتوفّرة آنذاك للاتّصال بفالقراند وبمنطقة الثّوّار وكذلك بالقيادة الجنوبيّة )2Southern Command(، القائمة في باناما- في منطقة القنال الّتي كانت وقتها ملكا للبنتاغون. استقبلني الرّقيب روبرتو شلتن Roberto Shelton الّذي أعلمني بأنّ 600 حرسا رنجرز وهي فرق خاصّة في الجيش البوليفي قد تدرّبت تحت قيادة أمريكيّة- قد أكملوا تكوينهم منذ فترة قصيرة وذهبوا إلى منطقة فالقراند.
مساء 8 أكتوبر ,1967 كنت أتجوّل رفقة صديق لي في السّاحة الرّئيسيّة بسنتا كروز عندما أشار إلينا رجل بأن نجالسه على طاولته، على رصيف مقهى. كان واحدا من الجنود الأمريكيين الّذين التقينا بهم في مخيّم التّرجّي. «عندي لكم أخبار جديدة»، قال لنا: «عن تشي؟»، سألناه، نحن المشغولين منذ أسابيع عديدة بأسره المحتمل. لقد قبض على تشي، أجابنا مخبرنا، وقد أصيب إصابات بالغة. من المحتمل أن يقضي قبل انزياح اللّيل. بقيّة الثّوّار يقاتلون بضراوة في سبيل استرجاعه، وقد طلب المقدّم عن طريق الإذاعة أن يبعثوا بطائرة مروحيّة ليبتعدوا به عن المكان. كان المقدّم مضطربا جدّا إلى درجة أنّنا لم نكن نفهم كلامه بسهولة. كان من الممكن فقط الاستماع إلى قوله «لقد أمسكنا به! لقد أمسكنا به!».
اقترح علينا مخبرنا بأن نكتري طائرة مروحيّة لتحملنا فورا إلى منطقة الثّوّار. لم يكن يعلم إن كان تشي مازال على قيد الحياة أم لا، ولكنّه كان يعتقد أنّ بقاءه طويلا أمر قليل الاحتمال. لم يكن لدينا من المال ما يكفي لاكتراء مروحيّة هذا على افتراض توفّرها. كانت السّاعة 20 و30 دقيقة. كان اللّيل حالكا وبالتّالي كان من المستحيل الطّيران في تلك السّاعة المتأخّرة. لذلك اكترينا «جيب» وانطلقنا الرّابعة صباحا من يوم الاثنين 9 أكتوبر نحو فالقراند.
بعد رحلة دامت خمس ساعات ونصف السّاعة وصلنا إلى المكان. لم يسمح لنا الجنود بالذّهاب بعيدا، حتّى هيقوارا
فانصرفنا مباشرة إلى ساحة الطّيران، وهي ميدان بدائيّ نسبيّا فقد قيل لنا بأنّ نصف سكّان القرية قد تجمّعوا في هذا المكان ينتظرون، دون أن ننسى ذكر التّلاميذ أصحاب الميدعات البيضاء والمصوّرين الهواة. كان سكّان فالقراند قد تعوّدوا على ذهاب الجنود ومجيئهم.
من بين هذا الجمهور كان الأطفال الأكثر هياجا. كانوا يصوّبون أصابعهم نحو الأفق متوثّبين وقافزين. بعد بضع دقائق، بانت نقطة صغيرة في السّماء وسرعان ما أخذت شكل طائرة مروحيّة تحمل على درابزين الدّرج جثّتي جنديين مقتولين. فكّ عقالهما وألقي بهما دون أدنى احترام في شاحنة ستنقلهما إلى القرية.
بينما كانت الجموع تتفرّق، بقينا نحن نلتقط صورا لأكياس النّابالم الّتي وفّرها الجيش البرازيليّ، والمنثورة في محيط ساحة الهبوط. وبمساعدة منظار مساحيّ، صوّرنا رجلا يرتدي لباسا عسكريّا أخضر زيتونيّا، دون شارات عسكريّة، يماثل عميلا في المخابرات الأمريكيّة. هذه الجرأة الّتي أظهرها مصوّرون غرباء، مع العلم أنّنا كنّا أوّل من وصل إلى فالقراند وقد سبقنا جميع الآخرين بأربع وعشرين ساعة، لم يستسغها عميل ال CIA فحاول بدعم من بعض الضّبّاط البوليفيين طردنا من القرية. ولكن كان معنا ما يكفي من سندات المرور لنثبت أنّنا كنّا صحافيين حقيقيين. بحيث سمحوا لنا بعد نقاشات عنيفة بالبقاء.
إثر ذلك، أقلعت الطّائرة المروحيّة الوحيدة متّجهة نحو منطقة المعركة، على بعد ثلاثين كيلومترا في الجنوب الشّرقيّ، حاملة على متنها العقيد زنتانو. بعد ساعة من منتصف النّهار، عاد هذا الأخير مظفّرا، لا يكاد يواري ابتسامة رضا واسعة. وأعلن عن موت تشي. لقد شاهد جثمانه، ولم يكن لديه أدنى شكّ. أمّا نحن فلم يكن لدينا أيّ عذر لعدم تصديقه، وهرعنا نحو مكتب البرقيات الصّغير، لنضع بين يدي عامل قلق وغير مصدّق برقياتنا الموجّهة إلى العالم بأسره. لا أحد منّا كان متأكّدا حقّا من وصولها إلى وجهاتها، ولكنّنا لم نكن مخيّرين. بالفعل، إنّها لم تصل أبدا.
بعد أربع ساعات، وتحديدا في السّاعة الخامسة مساء، عادت المروحيّة من جديد ولم تكن تحمل هذه المرّة سوى جثّة واحدة، موثوقة في درابزين درج الهبوط الخارجيّ. وبدلا من أن تحطّ حيث كنّا، كما فعلت في المرّة السّابقة، هبطت في وسط المدرج، بعيدا عن أعين الصّحافيين المتطلّعة. ومنعنا من اختراق الطّوق الّذي ضربه الجنود. ولكن، وبسرعة، هناك بعيدا، ألقي بالجثّة في شاحنة من نوع شافرولاي أخذت تجري بسرعة جنونيّة عبر المدرج، حتّى ابتعدت.
قفزنا إلى سيّارتنا «جيب» الّتي لم تكن بعيدة عنّا، وأخذ سائقنا في مطاردة الشّاحنة كالمجنون. وبعد كيلومتر تقريبا، داخل القرية، انعطفت الشّافرولاي فجأة، ورأيناها تلج دائرة المستشفى. حاول جنود إغلاق الشّبكات لمنعنا من المرور، غير أنّنا كنّا قريبين جدّا من الشّاحنة بحيث نجحنا في العبور.
صعدت الشّافرولاي مرتفعا وعرا واتّجهت بعدئذ، بسير ورائيّ، نحو مأوى صغير ذي سقف خيزرانيّ، وكان أحد جوانبه مفتوحا كلّيّا لحالات الطّوارئ. قفزنا خارج ال»جيب» لكي نصل إلى الباب الجانبيّ للشّاحنة قبل أن يفتح، وعندما حدث ذلك وبشكل عنيف، برز عميل المخابرات الأمريكيّة وهو يزعق بعبارات مستهجنة
حسنا، لنخرج الجحيم من هنا) يا له من مسكين، فهو لم يكن يدري أنّ صحافيّا بريطانيّا كان لابثا وراء الباب.
داخل الشّاحنة، على نقّالة، كان جثمان تشي يستريح. منذ الوهلة الأولى، عرفت أنّه هو، فقد سنحت لي الفرصة بأن ألتقي به منذ أربع سنوات خلت، في هافانا، وهو لم يكن من أولئك الّذين ننساهم بسهولة. بلا شكّ، إنّه فعلا أرنستو تشي غيفارا. عندما أخرجوا الجثّة ليضعوها على طاولة غير مهيّأة سلفا داخل المأوى، تأكّدت من أنّ الثّائر غيفارا قد مات فعلا.
شكل اللّحية، ملامح الوجه، شعره الطّويل والغزير، كلّ ذلك كان يمكن تمييزه من بين ألف غيره. كان يرتدي بزّة عسكريّة خضراء زيتونيّة وسترة تغلق بمزلقة، وجوربين بلون أخضر منصّل، وحذاء من صنع تقليديّ على ما كان يبدو. ولأنّ الثّياب كانت تغطّيه تماما، كان من الصّعب تحديد موضع إصابته. كان هناك ثقبان بارزان في أسفل الرّقبة. وفيما بعد، عندما قاموا بغسل جثّته، لمحت إصابة أخرى في البطن. ومن المؤكّد أنّ جروحا كانت بساقيه وقريبا من القلب، غير أنّي لم أتمكّن من رؤيتها.
كان طبيبا المستشفى ينبشان إصابتي الرّقبة، ظننت في البدء أنّهما يبحثان عن شظيّة، ولكنّهما كانا يعدّان الجثّة لتلقّي الأنبوب الّذي سيدخلان عبره الفرمول لتصبير الجثّة، أحدهما أخذ يغسل يدي الثّائر الفقيد الملطّختين دماء. ما عدا هذه التّفاصيل، لا شيء على جسده كان يثير الاشمئزاز. كأنّه كان حيّا، وحين أخرجا ذراعه من سترته، قاما بذلك دون صعوبة. أظنّ أنّه بالكاد مرّت ساعات معدودة على موته. في تلك اللّحظة، لم أكن أتصوّر أنّهم قتلوه بعد أسره. جميعنا كان يعتقد أنّه قضي بسبب جروحه وبسبب غياب العناية الطّبّيّة طوال السّاعات الأولى من صباح يوم الاثنين ذاك.
لقد ظهر النّاس المحيطون بالجثمان أكثر إثارة للاشمئزاز من الجثّة نفسها: سيّدة متديّنة لم تستطع إخفاء ابتسامتها وتورّعت حتّى على الضّحك السّافر، الضّبّاط يأتون محمّلين بآلات تصوير ثمينة لتخليد المشهد، وبطبيعة الحال، كان عميل المخابرات الأمريكيّة يسيطر على الأمكنة، يحتكر من تلقاء نفسه المسؤوليّة على العمليّة بأكملها وينتابه الغضب الشّديد كلّما وجّه أحدهم آلة التّصوير نحوه. «من أين جئت؟» كنّا نسأله بالانجليزيّة، ونردف للمداعبة: «من كوبا؟» «من بورتوريكو؟»، غير أنّ دعابتنا لم تكن تعجبه، فكان يجيبنا بجفاء: « From nowhere « (من لا مكان).
أعدنا عليه السّؤال فيما بعد، ولكنّه أجابنا في هذه المرّة بالأسبانيّة Que dice :(ماذا تقولون؟)، متظاهرا بعدم الفهم. كان رجلا مربوعا وقويّا، في الخامسة والثّلاثين من العمر تقريبا، ذا عينين منغرزتين في حدقتيهما. من الصّعب القول إن كان أمريكيّا شماليّا أو كوبيّا مهاجرا، لأنّه كان يتقن اللّغتين الانجليزيّة والأسبانيّة على حدّ سواء من غير نبرة محدّدة. كان يدعى قيستافو فيلّولدو Gustavo Villoldo (ومعروف باسمه المستعار أدواردو قونزاليز Eduardo Gonzalez ) ويعيش دائما في ميامي، ولقد ذكرته في مقال لي في The Guardianاللّندنيّة قبل سنة ممّن تحدّثوا عنه في الصّحافة الأمريكيّة الشّماليّة.
بعد نصف ساعة، غادرنا المكان نحو سنتا كروز Santa Cruz، لنكتب عن المستجدّات ونرسلها. عندما وصلنا إليها يوم الثّلاثاء 10 أكتوبر، كان الفجر قد طلع بعد. لم يكن هناك مكتب واحد مجهّز تجهيزا كافيا. لذلك، ركبت الطّائرة في اتّجاه لاباز، ومنها أرسلت روايتي عن وفاة تشي، وقد تمّ نشرها في الصّفحة الأولى من The Guardian، يوم 11 أكتوبر. في الطّائرة، التقيت صدفة بالنّقيب بابّي شلتون Pappy Shelton ، الّذي صرّح لي بسرور: «لقد أنجزت المهمّة!».
------------------------------------------------------------------------
الهوامش
* المقال منشور بمجلّة Manière de Voir. عدد مزدوج ديسمبر 2006 جانفي .2007 ص 12 .15
** Richard Gott صحافيّ بريطانيّ في جريدة: The Guardian Londres كتب من جملة ما كتب:»كوبا: تاريخ جديد» .2004 وكتاب «هوغو تشافيز والثّورة البوليفاريّة».2005
1/ العاصمة التّأسيسيّة لبوليفيا هي مدينة سوكر Sucre الّتي تأسّست سنة 1538 على يدي بادروه أنزورز Pedro Anzurez.
2/ القيادة الجنوبيّة لجيش الولايات المتّحدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.