كان العدد الماضي من جريدتنا ماثلا للطبع لما بلغني خبر وفاة الاستاذ الجامعي الكبير يوسف علوان رئيس المجلس الاعلى للاتصال، لذلك تعذّر عليّ أن أكتب اي كلمة في حقّ الرجل وفي شأن هذا المصاب الجلل. خبر صاعق دون شك، ألم عاصف وحسرة كبيرة، لكن... عزاؤنا جميعا ان سي يوسف لم يمت على فراش المرض، وأنّه لم يقض في حادث بليد وانه لم يكن ضحية اعتداء غادر... عزاؤنا أنّ الازمة القاتلة فاجأته وهو واقف، صرعته وهو يعلّم، هزمته وهو يفكّر. لا أحبّ أن يشتغل التكفيريون على ما سأقول، لكنّني رغم ذلك أزعم أنّ الموت أحسن معاملة سي يوسف، كان لطيفا معه، لم يرهقه، لم يعذّبه، لم ينهك جسمه، كان فعلا رحيما به (كما يقولون اليوم عن موت يطلبونه لأحد فلا يأتيه) لم يسبّب متاعب لاهله وذويه، لم يهدر وقته في الحل والترحال بين العيادات وقاعات العلاج. «لا يا أبي، من أدراك أنّ الموت جامل صاحبك سي يوسف، كما تقول؟» هكذا علّقت ابنتي مشروع الطبيبة ولم توافق على مجاملة الموت ورحمته اللتين ذهبت أنا إليهما. قالت «ربّما كان الموت رحيما بجسد الرجل ولكنّه كان قاسيا مع دماغه فالموت هو موت الدماغ أوّلا». أفحمني هذا الكلام فأقلعت عن مزيد الحديث في الموضوع.
سي يوسف، ابن جبنيانة، نشأ في منطقة يقدّس أهاليها العلم والمعرفة ويحرصون على تعليم أبنائهم حرصهم على تأمين الاكل والشرب وضمان الهواء للتنفس. كان النّاس هناك وأظنّهم مازالوا يبيعون الغالي والرخيص من أجل ان يتعلّم أبناؤهم، سواء في صفاقس، سوسة، في العاصمة او في الخارج، في فرنسا وحتّى في الاتحاد السوفياتي (السابق). بعض العائلات وخاصة نساءها، تختص في نسج «المشتية» (نوع من الغطاء الصوفي) فتعرضها للبيع بمناسبة العودة المدرسية وبمحصولها تنفق على تعليم الابناء، عائلات أخرى تخصص «ميسرة الزلّوز» للعودة المدرسية واذا كانت الصابة ضعيفة ولا تفي بالحاجة، اقترضت على حساب صابة الزيتون، عائلات أخرى تضطر لبيع الجمل او الناقة او النعاج وما كسبت لتوفّر المتطلبات الخاصة بالدراسة. عمّ الدبابي، والد سي يوسف (وعائلته) كان أفضل حظا لانّه موظف يتقاضى أجرة شهرية، ولذلك ربّما كان أكثر من غيره حرصا على تعليم ابنائه، كل ابنائه وفي مقدمتهم سي يوسف الذي نجح ومضى كالسهم يلتهم سنوات الدراسة حتى تخرج استاذا جامعيا ألمعيا لامعا. سي يوسف ولد بلاد، يكبرني وأبناء دفعتي بأكثر من عشر سنوات، ولكن فارق السن لم يكن يمنعنا من الاقتراب منه، مثله مثل آخرين ممّن لا أريد أن أذكر بالاسم خوفا من أن انسى أحدا. فقد كنّا نتقصى أخباره كطالب متفوق ثم كأستاذ لامع ونطمح أن نكون متفوقين مثله ومثل غيره من أبناء البلد الناجحين، فكنا وكلّما سنحت الفرصة نلتقيهم إمّا في رحاب جمعية التعاون المدرسي وإمّا عشايا أيام الصيف في رحاب المقهى الكبير حيث كان النقاش يدور حول كل شيء تقريبا وخاصة حول الديمقراطية والحريّات والتعددية وحول القومية العربية والناصرية والبعث والوحدة العربية وقضية فلسطين والتعاضد وحول الشيوعية والتحريفية وحركة آفاق وحرب الايام الستة وقبلها اقتراح بورقيبة حول اقتسام فلسطين. ومن خلال هؤلاء تعرفنا على الاسباب التي دعت جمال عبد الناصر الى اعدام سيد قطب وعلى الثائر العالمي ارنستوشي غيفارا واطلعنا أيّما اطلاع على حركة ماي 68 التي شهدتها فرنسا. ولم يكن يكفي ان تسمع الجماعة يتحدثون عن تلك القضايا حتى تفقه شيئا منها بل كان من الضروري ومن الواجب أن تقرأ ما يتوفر بين يديك من كتب ومجلات ونشريات ومناشير، أو أن تطلبها من الجماعة، وان لا تشارك في النقاش إلاّ متى قرأت هذا الكتاب أو ذاك واستشهدت بأفكار من هذا الكاتب او ذاك او شاهدت شريطا سينمائيا بعينه. واعترف اليوم ان وعينا المبكّر بهذه المسائل من خلال طموحنا الى التفوق على غرار من سبقنا من ابناء البلد ومن بينهم سي يوسف، هو الذي صقل شخصياتنا وجعل منا من نحن الان. لكن وجب ان اقول هنا أنّ جماعتنا لم تكن «تشيْشة وإلاّ طريفْ» فحزمنا أمورنا وآلينا على أنفسنا أن نتجاوز «كبارنا» فتناقص تدريجيا اتصالنا بسي يوسف خاصة أنّه اصبح مسؤولا فتولّى إدارة عدّة معاهد عليا ومؤسسات انقطع لخدمتها بكلّ ما لديه من فكر وطاقة.
في اواسط التسعينيات، فكّرنا في تكوين جمعية تلمّ شمل أولاد البلاد المقيمين في العاصمة وجهات الشمال وتوفّر لهم فرصة التعارف وترابط الاجيال كما كان من أهداف الجمعية استغلال الطاقات المتوفرة من الأطباء للقيام بحملة فحص وعلاج مجانيين ومن المحامين للقيام بحملة ارشاد قضائي ومن مثيلي سي يوسف لتقديم أفكار مشاريع اقتصادية ومن اصحاب راس المال لبعث مؤسسات، وفي جانب اخر استقبال الطلبة الوافدين وارشادهم وايوائهم، وغير ذلك من الخدمات . وأنا شخصيا أفخر أنّ مكتبي كان مكانا مثاليا لسلسلة من الاجتماعات التي عقدت للغرض، سي يوسف كان معنا على طول الخط، يشجّع، يقترح، يوجّه رغم أنّه لم يحضر بحكم التزاماته ومسؤولياته وتفاديا منه ومنّا لبعض «الصبيانيات» التي شهدتها تلك الاجتماعات. طبعا لم نوفق في تأسيس الجمعية «لأنّ جبنيانة » على حدّ قول موظف عهدنا له بدراسة ملفّها فشعرنا جميعا بمرارة كبيرة ومن بيننا سي يوسف الذي اغتنم ذات يوم فرصة مروره امام مكتبي بعد مشاركته في جلسة تعلقت وقتها بتكوين إطارات وزارة وانعقدت في مبنى قريب مني، فزارني في المكتب معتذرا في الاول عن عدم حضوره تلك الاجتماعات للاسباب التي ذكرت ومعبّرا في المقام الثاني عن أسفه لبعض الممارسات التي لم تشجع على الوصول الى الهدف المنشود وهو تأسيس تلك الجمعية. هل تفي هذه الخواطر حق يوسف علوان علينا. لا أظن. إنّه أكبر ويستحق أكثر. كم أتمنّى أن نعود الى هذه الجمعية فنسميها باسمه وكم اتمنى ان يسمّى أحد المعاهد التي أسسها أو أدارها او إحدى قاعاته باسمه وكم أتمنى أن تجمع كتاباته وآثاره في مؤلف واحد يبقى مرجعا للدارسين والباحثين.