الرجل الماسيّ، ليس مجرد نعت مرتجل تشي به سمرته الصارمة، بل عنوان تجربة يحرص صاحبها على ان يختزل بها تجربة شعبه / شعبنا، فهو يفكر ويتكلم ويكتب ويبتسم ويتألم ويصمت ويصرخ ويطبخ ويأكل ويحب ويكره ويصادق ويعادي ويقرأ ويتأمل ويحزن ويفرح ويمرض ويشفى ويعيش وقد يموت بعد عمر طويل هكذا تحديدا بهذه الطريقة وعلى هذا النحو، انطلاقا من وتأكيدا على وتعبيرا عن كونه فلسطينيا. لا يتكئ الى «تأكيد» فلسطينيته لرفع ضيم او قضاء حاجة عنه وله كفرد، رغم وجوب تفهم ذلك لو حصل، في زمن استباحة وجود الفلسطيني، ناهيك عن هدر حقوقه الوطنية والانسانية كافة. بل هو يحاول بمثابرة قوامها الكدّ والاجتهاد والمبادرة، ولا يحبطها الكيد والصدّ واحتمال الفشل، محتقرا معاناته ازاء عظمة معاناة شعبه، ومتقمصا الاخيرة وهو بصدد معالجة شأن قد يكون تفصيلا ذاتيا، فالذاتي اختلط بالموضوعي عند «نصري حجّاج» الذي امتصّ التجاريب الجمعية والفردية الفلسطينية المتميزة وحاول تمثلها بصياغة تحمل ملامحه هو. (2) لقد كابد محاولات شتى للتعبير عن هذه الذات المركبة والمعذبة ليس فقط بأرق البحث عن كيفية استعادة وطن وُلد هو في مخيم خارجه، بل وبقلق الاصرار على بلورة وصقل المبدع الذي طال كُمونُه أو مخاض ولادته. لقد تلمس جمار الشعر فاكتوت اصابع وجدانه من اجل حفنة رماد دافئ، فهجره باكرا الى كتابات صحفية نوعية أفضت به الى فن السرد الذي احتضن نبوغه المتأخر نسبيا، فأنجز ثلاثين قصة قصيرة صدرت في «مشروع الوطن» الذي يمثله راهن «رام الله» وأخواتها، بعنوان يتهكم فيه من مفارقات واقع سياسي يتخلى «المواطن المثالي» فيه عن حقوقه وغده، فيدفعه اعتقاده بأنه يحب حكومته» رغم عجزها، الى ذبح أطفاله تفاديا لاحراج الحكومة التي لن توفر لهم الشروط الحيوانية للبقاء ناهيك عن حقوقهم الانسانية كمواطنين! وايغالا في التهكم ذي الدلالة يهدي «نصري حجاج» كتابه هذا الى «نصري حجاج علّه يتوقف عن ملاحقته»، لكن ماضيه وماضي والده وأخيه الشهيد هو حاضره ومستقبله الماسك بخناقه، فالسارد والمسرود عنه هما الحكاية / القضية / الموضوع. (3) ولأن «نصري حجّاج» بعد ان دخل الخمسين، كما كتب إليّ على نسخة أهدانيها من مجموعته القصصية اليتيمة «أعتقد أنني أحب الحكومة» قرر ان لا يطرق بعد الابواب التي سبق ان دخلها، اتجه الى كتابة السيناريو السينمائي وتوجه في مهرجان قرطاج، فقفز خطوة واسعة سلخت من عمره سبع سنوات الى الاخراج السينمائي، هي الفترة الزمنية التي أنجز خلالها شريطه الوثائقي «ظل الغياب» الذي احتفى بكل الاجناس التي حاولها «نصري» قبله، حاملا بذلك الى السينما ظلال تلك الابواب التي سبق ان ولجها. ولئن أقرّ «نصري حجاج» بأن فكرة فيلمه تجسدت بدءا ببحث طويل عن قبور الفلسطينيين في لبنان من عام 1948 حتى لحظة انجاز البحث، فإن هجسه بموت الفلسطينيين وقبورهم تلامع في مجموعته القصصية التي فضحت نزوعه السينمائي ايضا، كما ان كتابه «اللاجئون الفلسطينيون الى متى؟» ليس بعيدا عن هذا المناخ العام، لكن زيارته سنة 1999 الى قرية (تل الناعمة) الفلسطينية التي ولد فيها والده كانت الصاعق الابداعي الذي فجّر فكرة الشريط الوثائقي. (4) هكذا انبثق الموضوعي من الذاتي الذي حفر فيه «نصري حجّاج» ليستذكر من ستينيات القرن الماضي دفن بعض أهالي المخيم الذي ولد وترعرع فيه «مخيم عين الحلوة» في حدائق منازلهم او في ساحة مدرسة المخيم الابتدائية لأسباب تتعلق بتقييد حرية الفلسطيني خارج وطنه حيّا وميتّا. فأبوه الذي ولد في الوطن ودفن خارجه، وشقيقه المولود في المخيم والمدفون فيه شهيدا برصاص قابيل العربي، وأهل مخيمه الذين تمنعت مقبرة صيدا عن استقبال جثامينهم في أزمنة الحصار، مرورا بعمله الوظيفي في دائرة العائدين بمنظمة التحرير، وصولا الى جوهر المسألة التي تم التعبير عنها بقوة ووضوح من خلال محاولة (تمتيع) فرسان التعبير الفني والادبي والسياسي بممارسة حق العودة الى الوطن بعد ان اسشتهدوا وهم يحاولون هذه العودة احياء، شكلت جميعها مادته الخام. فقد ترابطت هذه العناصر الذاتية والموضوعية وتشابكت في حوار خلاّق حوّلته آليات الابداع عند «نصري حجاج» الى بؤرة جمالية يسائل المبدع من خلالها ذاته كفرد وذاته الفلسطينية عن ماهية كل هذا الموت ومعناه ومآله، ويجد المشاهد نفسه بقوة الاقناع الجمالي شريكا في هذه المساءلة. (5) في جانب سياسي يتصدى الشريط وفكرته الاساس تصديا مباشرا لقانون اسرائيلي يمنع الفلسطينيين الذين الذين يموتون خارج فلسطين من ان يدفنوا في ترابها إن لم يكونوا من حامليّ الجنسية الاسرائيلية، في حين يسمح لأي يهودي وان كان لا يحمل الجنسية الاسرائيلية بأن يدفن في «أرض الميعاد»! إلا أن القول الابداعي لا يتوقف عند هذه المسألة بل يحملها في طيات خطاب وجداني يشمل التجربة الفلسطينية بأسرها من خلال سرد المحاولات الاخيرة لعودة رموز سياسية وابداعية الى الوطن، كراشد حسين، ومحمود الهمشري، وناجي العلي، ومعين بسيسو، وادوارد سعيد، وأبو جهاد الوزير وياسر عرفات، وبإضاءة ذكية يحضر الكاتب الروائي «إميل حبيني» حيّا وميتّا رمزا لإصرار الفلسطيني في الاراضي المحتلة سنة 1948 على البقاء في أرضه. وبكاميرا ساردة تنتقل بالمشاهد بين التضاريس الطبيعية الجميلة لقرية «تل الناعمة» الدارسة التي ترشح أسى وبين أزقة المخيم الفلسطيني في لبنان التي تنضح بؤسا، يفتتح «نصري حجاج» خطابا جماليا يعتمد بلاغة الصورة السينمائية أساسا له. فهذا المخرج السينمائي لم يراهن على افتراض كونه وموضوع فيلمه فلسطينيين، قد يضفي على «ظل الغياب» هالة تجعله مقبولا عند اي جمهور يتقبل بتعاطف وتسامح أي عمل يكون مصدره فلسطينيا. فنصري حجاج يدرك أولا ان هذه الهالة تآكلت، وثانيا هو يريد ان يحيط فلسطين والفلسطينيين بهالة تضامن ايجابية جديرين بها، يصنعها خطاب جمالي فلسطيني راق يقوم على قوة الحق، بدلا من هالة تعاطف سلبي مع ضحايا «حق القوة». ولذلك عمد وهو يقدم شريطا وثائقيا الى ان تتصدر بلاغة الصورة السينمائية العناصر الاخرى التي انتسج منها خطاب سينمائي يؤرخ بتضافر الوثيقة الدامغة مع نبض الوجدان لمعاناة شعب بدءا من رحلته تحت الارض مستذكرا بإيحاءات غير مباشرة رحلته الدامعة الدامية فوقها منذ 1948 مرورا بالراهن الى أمد غير منظور ! (6) بذكاء الشاعر ورهافة حسّه توقف «نصري حجاج» عند فكرة شريطه التي رغم شيوعها الى حد الابتذال في الحياة اليومية الفلسطينية الا ان أحدا في العالم لم يتطرق اليها قبل «نصري حجاج». وبتواضع لافت فتح الشاعر السينمائي ذاته على ذوات مبدعين اخرين، «موظفا» شعر محمود درويش بصوت ممثلة لبنانية، وموسيقى «هبة قواس» وغناء «كاميليا جبران» ليزيد من زخم الشريط العاطفي الذي يبقى متماسك البناء. وهكذا خفّف «نصري» من نرجسية «أنا» المبدع التي كانت تبنى بمشاهد منافي الفلسطينيين من الولاياتالمتحدة الى الفيتنام ومن بلغاريا وفرنسا ورومانيا وايطاليا الى سورية والاردن وتونس ولبنان، الذي أخذ الحيّز الاكبر من الشريط بمخيماته وابناء مخيماته ومقابرهم فيه، وبحكايات مصائر هؤلاء التراجيدية كانت تبنى تلك الأنا الخلاّقة منجزها الأكثر وضوحا في تحققه وتألقه، كشاهد اثبات على نبوغ متأخر، لا يؤشر معنى محدودا في دلالاته، اي منحصرا في تمكن «نصري حجاج» من تحقيق تطلع شخصي اعتمادا على شأن عام، رغم مشروعية ذلك ما دام عمله قد استوفى الشروط الابداعية كافة، بقدر ما يشير الى عناد هذا الشعب وصبره ومصابرته للوصول الى حقوقه ولو بزحف العظام من قبورها في المنافي للانضمام الى جبلتها الاولى في فلسطين. (7) لقد شاهدت الشريط مرارا، وكانت مشاهدتي الأمتع مع جمهور لم يدع بل ابتاع تذاكره وقصد مقاعده في ظلام صالة «افريقيا فن» يتابع «ظل الغياب» بصمت لاهث، ولا أظنها كثيرة الافلام الوثائقية التي تعرض تجاريا في صالات السينما العربية كما حصل مع هذا الشريط الذي عرض مدة اسبوع في تونس وكتبت عنه صحافتها بإسهاب وإطناب. فإضافة الى انه قدم الى جيل جديد من الفلسطينيين والعرب معلومات عن القضية الفلسطينية يجهلونها تماما، فقد قام بتنشيط ذاكرة الكهول المتعبة في لحظة نضالية مترهلة، بل هو كأي عمل ابداعي ناجح يزيدنا معرفة بأنفسنا ومجتمعنا ومحيطنا، وبقدر تحريكه لأحاسيسنا ومشاعرنا يحرك آلية تفكيرنا وينبهنا الى مفارقات من نوع ان المقبرة الوحيدة في العالم ربما التي تجردت من الوحدانية الدينية او الطائفية او العرقية هي مقبرة شهداء منظمة التحرير في بيروت التي تضم رفات القادة والادباء كأحمد الشقيري وغسان كنفاني وكمال ناصر والحاج أمين الحسيني الى جانب المقاتلين والمواطنين العاديين فلسطينيين وعربا وأكرادا ومن جنسيات وطوائف دينية مختلفة يجمعهم فقط أنهم استشهدوا من اجل فلسطين، فهل ثمة أنبل وأسمى وأعمق دينيا وقوميا وانسانيا من هذا الرابط بين الشهداء؟ لتدين بذلك نظاما طائفيا ما فتئ الشعب اللبناني يتوارث كوارثه! ولا شك في ان هذا الشريط الذي انتجته شركة «فاميليا» التونسية بدعم من وزارة الثقافة في السلطة الوطنية الفلسطينية، أكد حضوره النخبوي بحصوله جائزة المهر البرونزي من مهرجان دبي السينمائي في أول مشاركة له بمسابقة رسمية، وسيتعزز هذا الحضور مستقبلا بمشاركته التي تأكدت في مهرجان «هوستون» الامريكي» و «مرسيليا» الفرنسي، بانتظار ان تتأكد في مهرجان قناة «الجزيرة» للأفلام الوثائقية، كما انه ليس اكثر دلالة على نجاحه الجماهيري، وهو الشريط الوثائقي الطويل، من قدرته على شدّ المشاهد العادي الى مقعده في صالة سينما تجارية، الى ان تضاء الصالة، كما حصل، في تونس، مؤكدا بذلك دورا معلوماتيا تعليميا إعلاميا. يبقى ان نشير الى ان ريادة «نصري حجاج» في تقديم هذا الموضوع من خلال قراءة ذاتية، يفتح الباب على مصراعيه لقراءات اخرى من فلسطينيين وعرب وأجانب لهذه التراجيديا التي يجب على البشرية ان تأتي بفعل ناجع لإيقافها. ------------------------------------------------------------------------