«إنها تقترب من التاسعة والربع» يقول العمّ محمد دون أن ينظر في ساعته، « لقد بِتْنا نَحدس الوقت من حركة المرور التي تحيطنا: من زحامها وخفوتها، من صوت المترو والقطار الذي يمرّ بنا، لقد بدأت صافرته تقترب من باردو إنه القطار القادم من جندوبة وستنزل لوحة تمنع المرور على السكة الآن». عاد إلى ثمالة كأس يترشفها بذات اليد التي تحمل سيجارة بيضاء مشتعلة عبّ منها بنهم، ثابت، لم يتحرك من جسمه إلا يده اليمنى، ساقاه منثنيتان على بعضهما، يلتصق بأرضيّة مقعده البلاستيكي حدّ التماهي، يقترب من جذع شجرة الكالتوس ليستعيض به عن ظهر الكرسي المهشم فربّما تَعب بعد ساعة أو اثنتين أو ثلاثة من جلسته على نفس الهيأة فلا يبدو يوم انتظاره قصيرا. هو واحد من عدد كبير من رواد مقهى المحطة بمنطقة باردو، الذين يقصدونه كل صباح بحثا عن عمل، رواد يتوزعون على الرصيف يكاد دخان السيارات الكثيرة التي تعبر المفترق يغمرهم، يواجهون في انتظارهم المبنى الفاخر لمجلس النواب تلك البناية العتيقة المحاطة بنافورة مياه ممتدة. «موقع المقهى هو الذي حدّد طبيعة روّاده فلم يكن في نشأته حكرا عليهم»، واصل النادل غسل كؤوسه القليلة مشيرا بإصبعه إلى العدد الهام من المنتظرين «لا ينفرط تجمعهم إلا مع غياب الشمس». دون أن يتزحزح عن مكانه تقريبا ودون أن يحرك أي عضو من أعضائه، فقط رأسه يرفعها قليلا وكأن الانكماش والانحناء بات من طبائعه، يُسَرّب العم محمد كلماته من بين أسنانه الصدئة «مكاني هذا اخترته واختارني تقريبا منذ ثماني سنوات عندما قدمت من منطقة باجة إلى تونس، آتيه في السابعة صباحا فيستضيفني إلى حدود منتصف النهار، لا أغادره ولا يملّني...»
شيفرات المكان لا يبدو هذا المُنتَظِرُ وحيدا في صمته وانكماشه على كرسيه، فالمقهى يعجّ بالمتوحدين أمام كؤوس قهوتهم وحقائبهم الملوّنة، هذه واحدة حمراء تُبين عن أدوات تشييد وبناء: مَعَلْقة وميزان ماء، فتنبؤ إن صاحبها حرفيّ في البناء وليس صانعا، فللجماد لغة هنا وللمكان شيفرات، وهذه حقيبة أخرى سوداء وضعها صاحبها عند مكان ظاهر على الرصيف واختار أن يمكث واقفا مستغلا إطلالة الشمس عند سور المحطة. «أستهلك عشرة دنانير في اليوم دون شغل، وإذا عملت أسبوعا في الشهر اعتبر نفسي محظوظا»، عمره ست وثلاثون سنة وحرفته بناء يتكلم بعصبيّة ويحرك يديه كثيرا ضاغطا على جمّازته يفتحها حينا ويغلقها حينا آخر، « إني أتحسر على الزمن الذي كنت فيه عاملا مهاجرا خارج البلاد، لقد كنت أكسب ما يفيض عن حاجتي ... هنا لديّ ثلاثة أطفال وزوجة ومصاريف كراء وربما اشتغلت بثلاثين دينارا في اليوم إذا كان الحريف كريما وربما بعشرين فقط، لو أن هذه الدنيا منصفة لكنا نكسب أكثر من الأطباء، عملنا يدرّ الذهب ولكن ...»، انصرف توفيق إلى حسرته يتجرعها بسيجارة يدعكها دون قصد بين أصابعه وهو يرقب عربات المترو المكتظة التي تعبر محطة باردو وربما أزعج أزيزها رواد المبنى المقابل ولكنها باتت في رزنامة هؤلاء المنتظرين جزءا من تفاصيل يومهم الطويل ومزولة لمواقيتهم المتمطيّة. تتحرك عيون توفيق وبشير صانع الطلاء وفتحي عامل البناء وعم محمد وغيرهم، وتشرئب رقابهم كلمّا توقفت سيارة أمام مقهاهم ونزل منها سائل حتى لو كان يستفسر عن طريق تؤدي إلى منطقة «وادي الليل» المجاورة. نادل المقهى يعرف أسماء أغلبهم فينادي بعضهم بالاسم، ويعرف اختصاصات بعضهم الآخر خصوصا أولئك المرسّمين القدامى في الجلوس إلى المقهى، لا يعاملهم بنفس الحسم الذي تُعامل به مَقاه أخرى حُرفاءها: إمّا الاستهلاك أو الانصراف، هو يعرف غاية جلوسهم ويفهم انتظارهم «للذي يأتي ولا يأتي» *. «نتعايش مع الانتظار.. كالمرض» «عمري تجاوز الخمسين سنة ولا أتمتع بالتغطية الاجتماعية أطفالي يتداوون بوثيقة علاج يمنحها العمدة للفقراء، لا أمل لي في منحة تقاعدية قد تسند شيخوختي، سأعمل حدّ الموت» أطلق جملته بنفس الهدوء وعاد إلى صمته وقهوته، لم يتبدل شيء في جلسة عم محمد سوى استرخاء في استقامة طاقيته المزركشة التي كانت منذ قليلا أكثر ثقة وكبرياء. أمل هؤلاء المنتظرين أن لا تمطر السماء فلا مكان يحتمون به وأملهم أن لا تقوم الزوابع حتى لا تتعطّل أرزاقهم، وأملهم أن يجدوا أشغالا قارة، وأملهم أن ينتظموا في هيكل يحمي بطالتهم المُقنّعة... « لا نكسب من الأعمال الحرّة إلا حريّة البطالة، إننا ندفع مالا في استهلاكنا ونحن ننتظر ما سيجود به الحظ من الرزق من أجل أن نستهلك، إنها دوامتنا اليومية والشهرية والسنوية، ولا فصول قارة تزدهر خلالها أعمالنا كل الفصول في التقتير متشابهة». إنه بشير بن اللطيف حاله أحسن من غيرة لان سكناه قريبة نسبيا من مركز انتظاره، إذ يأتي كل يوم من منطقة «الجديدة» القريبة فلا يتحمل مصاريف كراء كغيره من المنتظرين ولكنه قد يعود في المساء خاوي الوفاض إلا من ضجيج المفترق يملأ رأسه المتعب وجسده المنهك، « لقد تعلمنا كيف ننتظر وكيف نعبر بانتظارنا إلى الغد، تعلمنا أن نتعايش معه كما نتعايش مع المرض المزعج الذي لا يُميت». تتوقف شاحنة بيضاء وينزل منها رجل خمسيني فيتوزّع المتكلمون وينسحبون نحو بياض الشاحنة آملين في سرهم أن لا تعود بهم الخطى بعد حين للوراء إلا لحمل حقائبهم مصحوبين بنظرات زملائهم المنتظرين ودعائهم الصامت أن يتوفقوا هم أيضا إلى «وَفْقَة» تخرجهم من البطالة. ولكنهم سينغمسون من جديد في انتظار أن يتوقف سائل أو سائق أو راجل أمام مقهى المحطة حتى يعاودوا حركة عيونهم ورقابهم وخطاهم، وربّما أتي الانتظار بما يُحَرّك أرزاقهم في هذا المفترق.