يحتفل هذه الايام المسرح التونسي بمائويته الزاخرة بالنضال والبذل من لدن اعلامه الاجلاء... إذ ولد هذا الفن وشبّ في حضن حركة التحرر الوطني وخطابها في التأصيل والتنوير فقامت بتحريض الناس بلسان عربي فصيح على طلب الحريّة ومقاومة المستعمر الجاثم على صدر البلاد والعباد وسعيه المحموم لطمس الثقافة الوطنية في بعدها العربي الاسلامي.. على هذا الدرب تعانق وتناغم المسرح التونسي مع شقيقه المصري رغم مظاهر وجود فعله الدرامي في التراث الشعبي وفي المعمار المسرحي الرّوماني وما دار فيه من عروض مسرحيّة دمويّة تقاتل فيها الانسان مع الحيوان وتواصل في شكله الغربي المتحضّر بعيد احتلال الاستعمار الفرنسي للايالة التونسية وعمل على نشر ثقافته من خلال التعليم والانشطة الثقافية الابداعية الموجّهة الى جاليته بالمدن الكبرى والمتداخلة في نموّّها التغريبي مع حركة التجنيس من أجل تلك الاعمال الثقافية الفنية التي تكثفت تمّ تشييد المسارح الثلاثة : تونس وصفاقس وسوسة في السنوات السبع الاولى من القرن الماضي ومن ذلك تمكنّت النخبة التونسية من تذوق هذا الفنّ الرفيع على أدبه ومدارسه الفنية فانبهرت بجودة نصوصه وبسحر تأثيره على المشاهد ومع قدوم الفرق المصريّة مثل فرقة جورج ابيض وفاطمة رشدي وسليمان قرداجي وسلامة حجازي ويوسف وهبي وما قدّموه على خشبة المسرح البلدي بالحاضرة من مسرحيات تاريخية فذّة ناطقة بلغة الضاد منها: صلاح الدين الايوبي وفتح لاندلس وثمّن الحرية وسقوط غرناطة وعطيل لشكسبير جاءت في مشهدّية فجّرت الراسب من الألم في وجدان المتفرّج والمسرحي التونسي على ما فات وضاع من ماضيه التليد وعلى خطّ وعي روادنا برسالة المسرح التوعوية والتثقيفية ثم بعث فرقتي الاداب العربية والشهامة العربية بقيادة رائدي هذه الحركة الفنية ابراهيم الاكودي ومحمد بورقيبية وكليهما من الساحل والاخير شقيق الزعيم الحبيب بورقيبة، ربّّاه وسهر على تعليمه ولازمه في جهاده المسرحي فتمسرح الحبيب الفطن ونقش في ذهنه حبّ التحرير والتنوير، وهذه السيرة سمعناها مباشرة من افواه أساتذتنا الابرار رموز الحركة المسرحية والادبية والنقابية أمثال: الهادي العبيدي عميد الصحافيين ومحمد الحبيب ومحمد المرزوقي وعبد العزيز العقربي وفيلسوف الساحل سالم بن حميدة وعبد العزيز العروي، اذ اجمع هؤلاء الفطاحل إلى ان المسرح التونسي كان رأس حربة النضال والتحريض على مناهضة المستعمر وان راية التحرير والتنوير رفع خطابها في الصحافة والمسرح والحركة النقابية وفي الرشيدية وفي مقهى تحت السور وزاد في دعمها قدوم بيرم التونسي الى بلده تونس.. إثر نفيه وابعاده من طرف الاحتلال الانقليزي كما حلّ في الزمن نفسه المصلح المصري محمد عبده الى بلادنا ووجه النقد نفسه الى طريقة التعليم التقليدية السائدة في جامع الزيتونة وهو الموقف ذاته الذي وقفه في مصر ضدّ التعليم المتخلف في جامع الازهر. وفي هذا الثلث الاول من القرن الماضي برز الشابي كشاعر ملحمي في الثورة والارادة والتحدي اثر محاضرته الخيال الشعري عند العرب بالخلدونية سنة 1929 وهو الذي خاطب شعبه وحثه على صعود الجبال.. وترك عيش الهوان والحفر.. وأنشد: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر اما الشيخ سالم بن حميدة الملقب بفيلسوف الساحل فهو متابع ومشارك في حركة النمو الثقافية المسرحية والنقابية الاجتماعية وهو صديق حميم لابراهيم الاكودي.... والمصلح الكبير الطاهر الحداد عُرف بتشدده في دفاعه عن المسرح والفكر الحرّ التقدّمي. ساند الطاهر الحداد ومؤسس الحركة النقابية محمد علي الحامي وهو اول من طبق دعوة الطاهرة الحداد لتحرير المرأة فأخرج بنتيه من سجن الدار ودفع بهن الى المدرسة فقام لفيف من الزعماء بقذف البنتين بالحجارة فتصدّى لهم وردّهم بحمية الى حجر الردّة مع العلم ان احدى البنتين زوجة وزير الحكومة السابق الهادي نويرة.. يقول الشيخ سالم بن حميدة انني اعرف عن قرب رجال المسرح وكتاب مقهى تحت السور والبارزين من مشايخ جامع الزيتونة المعمور ولي ثقافي اكتب الشعر ولي تأملات فلسفية مؤيد جبلة للتقدم وفكره النيّر... ساندت وساهمت في فكر النهضة والاصلاح واستقبلته الفرقة العربية المصرية التي منعت من العرض في المسرح البلدي بالعاصمة في جمع غفير من مثقفي وأعيان الساحل وخطبته في الناس منددا بقمع المستعمر لاخوتنا في العروبة عن طريق مدير المسرح البلدي الفرنسي وشكرت الباي باسم الساحل واهله على تدخله لاحالة الفرقة المصرية الى جهتنا. وحين سألته عن سببه وقوف ابناء الساحل في الصف الاول مع ابناء الجنوب التونسي قال ذاك شيء بديهي نتيجة حالة الفقر والحاجة وتجذّر روح التمرّد ضد المستعمر «فابن البياع» بالساحل وابن الخماس بالجنوب التونسي هما معول هذه الحركيّة وحطبها نظرا لان الفيلسوف كان صديقا لجدّي وأعرفه منذ الصغر وهو من اكبرواعرق عائلة ببلدة اكودة وأوسعها ثروة وكان رحمه الله شديد التحمّس لتحرير المرأة التونسية والعامل على ربقة الدونية والاستغلال ويعتبر كتاب الحداد موجه الى الكادحين من ابناء الشعب كافة لذلك فإنّ زمرة من الشيوخ من رجال الدين ضد تحريرالمرأة حتى احدهم وصاحب كتاب «الحداد على امرأة الحداد» اتهمه بالخروج عن الدين والملّة. بقلم: أستاذ الفنّ المسرحي الهاشمي الأكحل