إحتفل الشعب التونسي يوم غرة جوان 2009 بمرور خمسين سنة عن اعلان دستور الجمهورية التونسية في غرة جوان 1959. وهي مناسبة تاريخية متميزة تثير في نفوس التونسيين والتونسيات مشاعر النخوة والاعتزاز لما تختزنه هذه الذكرى من مثل عليا وتضحية في سبيل الكرامة وعزة الوطن ولما لهذا المكسب الوطني من مكانة جوهرية في نظامنا السياسي وفي مسيرة بلادنا بوصفه الوثيقة الاساسيةالضامنة للحقوق والحريات والمرجع لتأمين تماسك المجتمع ومناعة الوطن. ويجدر التذكيربهذه المناسبة ان تونس كانت سباقة عربيا واسلاميا في اصدار الدساتير (دستور قرطاج، عهد الأمان سنة 1857 ودستور سنة 1861) مما يؤكد تجذر الفكر الدستوري وعراقته في تاريخ تونس. غير ان البناء الفكري للتمثل الدستوري الحديث تشكل مع رواد حركة الاصلاح والتنوير الاجتماعي الذين مهدوا الطريق لبروز وعي شعبي بأهمية الدستور وقد اصبح هذا المطمح المحرّك الرئيسي للحركة الوطنية بمختلف مكوناتها، حيث شكل اصدار دستور للبلاد احد ابرز المطالب الوطنية التي التقت حولها النخب والجماهير الشعبية في تونس والتي جسدتها مظاهرات التونسيين والتونسيات في أحداث 9 افريل 1939 الذين رفعوا صوتهم عاليا منادين ببرلمان تونسي. إن كلمة «الدستور» لها وقع خاص في وجدان الشعب التونسي وقد شكلت رمزا للحركة الوطنية التحريرية التي أجمع قادتهاوفي مقدمتهم الزعيم الحبيب بورقيبة ان الاستقلال الوطني ليس غاية في حد ذاته بل هو وسيلة لتحرير الوطن من براثن الاستعمار بما يتيح للمواطن التونسي استعادة كرامته وحريته وتحديد مصيره بنفسه وبناء مجتمع حرّ ومزدهر وعادل وفقا للمبادئ والقيم والاختيارات الحضارية التي أجمعت عليها قوى التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي والتي سيتم ضبطها في اطار قانون اساسي هو دستور البلاد. لقد جاء إعلان الدستور اثر مرحلة التأسيس والبناء الوطني التي امتدت من سنة 1956 الى غرة جوان 1959 وتخللتها محطة بارزة تتمثل في اختيار طبيعة النظام السياسي وذلك بإعلان الجمهورية يوم 25 جويلية 1957. وقد تميزت هذه المرحلة ببناء مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة والشروع في تعميم التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وتركيز مقومات الاقتصاد الوطني تجسيما للطموحات الوطنية وتكريسا للعديد من الاختيارات التي تضمنها البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل الذي كانت له مساهمة فعالة سواء في اطار المجلس القومي التأسيسي او في حكومات الاستقلال وغيرها من الهيئات والمؤسسات الوطنية في نحت معالم الدولة الوطنية الحديثة وتشكيل ملامح المجتمع التونسي الجديد من خلال مثابرته في تكريس المبادئ السامية والأهداف التقدمية التي دعا اليها مؤسس اتحادنا الشهيد فرحات حشاد ورفاق دربه المخلصين وضحت في سبيلها أجيال من الوطنيين والنقابيين والمناضلين الأحرار. لقد جاء دستور 1959 ليؤكد سيادة الشعب ويرسخ قيم الجمهورية وحقوق الانسان، وفي مقدمتها حرمة الفرد وكرامته والمساواة امام القانون وحرية الفكر والتعبير الى جانب التفريق بين السلط وتأكيد الحق النقابي وحق الاضراب وتكوين الاحزاب السياسية وغيرها من القيم النبيلة التي جاءت منسجمة مع تطلعات شعبنا الى الحرية والعدالة والكرامة ومع روح الاعلان العالمي لحقوق الانسان. لقد شكل دستور 1959 المرجع في بناء الدولة الوطنية وظل المرآة العاكسة لتطور المجتمع التونسي والضامن لحرمة تونس واستقرارها، غير ان مسيرته شهدت بعض النكسات التي كادت تعصف بثوابت تونس ومكاسبها من خلال إقرار الرئاسة مدى الحياة سنة 1975 وضرب الحريات العامة والفردية والحقوق النقابية والاعتداءات المتكررة على الاتحاد العام التونسي للشغل لتدجينه وحرمانه من حقه الطبيعي في الدفاع عن مصالح الشغالين في كنف الاستقلالية، واخرها ازمة منتصف الثمانينيات التي أغرقت البلاد في حالة من اليأس والإحباط بسبب الانغلاق السياسي وفشل الخيارات التنموية والابتعاد عن مقاصد الدستور ومضامينه السامية. ولقد مثّل السابع من نوفمبر الذي تحقق في كنف الشرعية الدستورية منعرجا سياسيا مهما في مسيرة البلاد بدعوته الى تصحيح المسار الدستور ورد الاعتبار لمكانة الدستور وتنقيته من الشوائب السلبية التي حفّت به، وفي هذا الاطار تتنزل مبادرات الرئيس زين العابدين بن علي بإحداث المجلس الدستوري وإدخال اصلاح جوهري على الدستور لمواكبة مطامح مختلف القوى الوطنية وتأكيد الثوابت الحضارية الجوهرية التي جاء بها دستور 1959 والتي تتعلق بتعزيز هوية تونس وتكريس التوجه الحداثي لبلادنا وغرس مبادئ حقوق الانسان وترسيخ الحريات الاساسية وقيم التضامن والتسامح وتعزيز مكانة المرأة ودعم المؤسسات التشريعية. إن مرور خمسين سنة عن اعلان الدستور يحمّل كل التونسيين والتونسيات مهما كانت مشاربهم الفكرية والسياسية مسؤولية تاريخية للذود عن مناعة الوطن والحفاظ على مكتسبات شعبنا، وفي هذا السياق فإن أملنا كبير بأن تكون الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي ستلتئم في اكتوبر القادم محطة مهمة على درب تكريس روح الدستور وأهدافه التحررية من خلال دعم التعددية السياسية والتنافس الانتخابي النزيه وتعزيز علوية الدستور وهيبته والوفاء للمثل العليا التي ضحّى من أجلها رواد الاستقلال. إن شعبنا الذي عمل وثابر وآمن بقدراته الذاتية على مدى نصف قرن وحقق برغم محدودية الموارد خطوات كبرى على درب التقدم والرفاه، يتطلع في بدايات هذا القرن الجديد الى تحقيق نقلة نوعية جديدة في مسيرته تؤمّن له كل اسباب العيش الكريم في مناخ من الحرية والاستقرار والرفاه الاجتماعي وهو ما يتطلب حوارا اجتماعيا معمّقا ووفاقا وطنيا واسعا ومناخا ديمقراطيا سليما لمجابهة تحديات التنمية والآثار السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية وتوفير فرص العمل للشباب وتعزيز القدرة التنافسية لاقتصادنا الوطني ودعم التنمية الجهوية والتوزيع الاعدل للثروات. إن تونس التي تعتز بخياراتها الوطنية وحكمة قيادتها السياسية وتفاني أبنائها وبناتها في العمل تمتلك كل المؤهلات لمواصلة مسيرتها التنموية الموفقة وتأكيد مكانتها كبلد صاعد ومشعّ في محيطه الاقليمي. وإذ يهنئ المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل النقابيين والشغالين والتونسيين والتونسيات كافة بهذه الذكرى المجيدة، فإنه يؤكد بالمناسبة عزم المنظمة الشغلية على الاسهام مع سائر القوى الحية بالبلاد في دفع المسار الديمقراطي وتطوير الحوار الاجتماعي والوطني وتشجيع ثقافة العمل والاجتهاد وقيم المثابرة والولاء لتونس ومبادئ الاعتدال والتسامح وبناء مجتمع متضامن ومتوازن والمحافظة على هويتنا وثوابتنا الحضارية وارساء اعلام وطني حر ومتطور ونبذ كل اشكال الانغلاق والتطرف، وفي هذا الاطار يؤكد ضرورة تسوية قضية الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان باعتبارها مكسب وطني للجميع والعفو عن مساجين الحوض المنجمي لطيّ صفحة تلك الاحداث المؤسفة وايجاد حل يؤمن مشاركة الاتحاد العام التونسي للشغل في مجلس المستشارين في كنف الاستقلالية، وهي عوامل من شأنها ان تعزز ثقة التونسيين والتونسيات في سلامة مسارهم الديمقراطي وصواب خياراتهم الوطنية وتحفزهم على مواصلة العطاء والبذل لبناء مستقبل تونس بروح عالية من الوفاء لأهداف الاستقلال ومبادئ الدستور وقيم التغيير.