لم تفلّ فيهم جحافل الموت، تأتي من كلّ الجهات شرقا وغربا ، جنوبا وشمالا ، تحصد الصغير قبل الكبير وتمتصّ دم الحياة من الأوردة المحتقنة المتحفّزة للثأر والحياة.. كانت الأرض هي الحياة بالنسبة لهم، لأجلها يهون الموت ليختمر الآتي.. كانت أصالة القيم السرمديّة كالله والطبيعة والإنسان قد بصمت في ذاكرة القوم حكمة الأجداد كما منحتها إياهم التجارب الحلوة والمرّة: «الأرض كالعرض».. معادلة أسراريّة لا يمكن العروج إلى كنهها إلا عبر مراتب و أحوال من التداعيات الباطنيّة.. اللعنة: لحظة يرتبك فيها صاري المعادلات التي تتقوّم عليها البداهات الأولى، فيغدوا للوجود معنى يستحقّ أن يعاش به وله.. اللعنة: درب من الكربونات تكسدت في المكان .. اللعنة: فكر ربّانيّ تنهّد من تعب الآن.. تعب اللحظة، شعر، هذيان، كلمات تبحث عن معنى.. والصمت مخاط شياطين مخصيّة.. ..عندما أعياه التطواف بين الفلوات متأبّطا «غدّارة ليل لونها الكحل» وكتاب الفرقان المبين.. عاد إلى أهله.. الحنين: نداء إن لم تخرسه أخرسك.. الحنين: صمت إن لم تقله قالك.. الحنين: إختمار القول في الصمت.. الحنين: ثرثرة الصمت في حضرة الكلام.. حمله الحنين إلى العيال و أمّ العيال..أخذهم في حضنه، ضمّهم الى القلب ليدفئ ثلجيّة الفراق، أو ليطفئ نار البعاد التي كوت عواطفه وأدمت فؤاده الموجوع ومزّقت كبده الملتاع.. خبّأها في صدره أراد أن يصهرها قطعة من ضلوعه.. تحسّس الثمار التي نمت على سهل صدرها الصغير.. ضحك.. فهمت العبارة.. جرت الى أمّها لتواري خجل الأنوثة في حضنها.. «كبرت البنت بسرعة وصارت امرأة يافعة».. سنن الطبيعة أقوى من اعتباطيّة الجسد.. لكن.. فليكن هو لا يزال يراها بعيني أب لا يكبر في ناظريه وليد أنجبه من صلبه.. قرّر خلال عودته بأشهر أن يرحل..أن يغادر الأرض التي أعطت لحياته معنا.. الرحيل: قدر الأحياء..ديدن المهمومين.. صرخة الضعفاء..انتفاضة الأوفياء.. الرحيل: حلم السالكين..تأمّل الزهّاد.. الرحيل: بحث عن الآتي الذي لم يأت بعد.. عندما لامه الشيوخ.. لم يتكلّم.. نفض الخيمة عن آخر ذرّة رمل تحمل رائحة الأرض وتحتفظ بذكرى الأجداد الأولين.. غادر الأرض و هجر الأهل والوطن.. في الصباح كان شبح الراحلين يلقي بظلاله على الوجوه.. وعلى أديم الأرض..حيث مكان الخيمة كانت آثار دم تخطّ حروف معادلة جديدة «الأرض ولا العرض». اليوم وبعد مائة عام من الزمان، بعد ملايين من الأشبار مكانا، بعد بحار من الدماء شهادة ضاعت الأرض!! فاستبيح العرض!! عندما راوداه المحقّق والجلاّد على بكارة أفكاره، توحّدت أقانيمه الثلاث حول «العقل الآب» كان يدرك بفطرة المتعبّد في محراب «اللاءات الثلاث» أنّ أبرهة يقصد مكّة، وبأنّ سدّ مأرب كان هزيمة العرب الأولى التي فرّخت سنوات البداوة والتشرّد..غازله المحقّق المخصيّ بأسئلة قضيبيّة رامت النيل من كرامته العذراء..لم يرتبك..لم يفكّر..تبسّم ونطق «أحد ..وطن واحد أحد..شعب واحد أحد، ولد وسيلد، ليس له كفء في الصبر والجلد».. وأخيرا نفذ صبرهم فاستباحوا جسده، ساعتها تأكّد أنّه انتصر.. بعد هذا العمر العتيق تعلّم معادلته الأخيرة أنّ «».. العار: أرضي وليست لي.. العار: عري الجسد أمام الروح لا يغطّيه سوى أزيز الرصاص وزغردة البارود، تزفّ الروح الطروب الى جحفل الخيّرين و مضارب الشرفاء.. العار لا تغسله سوى النار، فلتتفتّحي يا نافورة الدم العربي ولتغسلي الروح الحزين..