"عشر سنوات بعد الثورة التونسية: نداء أخير قبل نهاية التجربة " هو عنوان مقال سابق، تضمن متابعة دقيقة لحالة السياسة في تونس وانذارا بأنها ذاهبة للنهاية إذا تواصلت بنفس الممارسات. لئن تعم المواقف المتسرعة الرأي العام إثر الأحداث المتسارعة، فإن قلم من يفكر واقعيا يجف حبره في تلك المرحلة عسى أن يسترجعه بعد أخذ مسافة من الأحداث، لينعم بالدراية الضافية بعد اكتمال الصورة ويتسم بالواقعية في معالجة الأمور وهو بعيد عن حركية المواقف المكثفة.
كان عليما لدى الجميع بأن البلد محتاج لتغيير، تغيير سيكون مقبولا من الشعب طالما كان متطابقا مع ثورة النفوس ضد الطبقة الحاكمة. كانت محركات التغيير مشتغلة كلها لحين البصمة الأخيرة من رئيس الجمهورية: حكومة ضعيفة مشتملة على شغورات متعددة وهي عاجزة على مواجهة الأزمة الصحية، حالة الشارع الذي سئم الطبقة الحاكمة إلى جانب تجسيد ذلك في احتجاجات متصاعدة، برلمان أعطى صورة سيئة وشابته الانقطاعات والتعطيلات المتواصلة، الأجهزة والإدارة التي هي جزء من المجتمع الذي يعيش خوفا على مستقبل البلاد، هي كلها محركات جعلت من التغيير أمرا ضروري مقترنا بمجرد الإعلان عن قرارات استثنائية لوضع حد لتواصل الأزمة. تلك القرارات الاستثنائية التي كانت يقينا متواصلة وفقط محتاجة لكثير من الجرأة وقليل من التماسك والحذر.
إن كان تدخل الرئيس عن طريق الفصل 80 استجابة لخروج الناس للشارع تجسيدا لمعارضتهم للأحزاب الحاكمة وسوء تصرفها طيلة سنوات دون تلبية لوعودهم الانتخابية، فإن الإجراءات الاستثنائية المعلنة مؤخرا في إطار المراسيم الرئاسية كانت تجسيدا لاستعادة مكانة رئاسة الجمهورية داخل اللعبة التنفيذية في البلاد.
لنكن واقعيين، فنقول أن الدستور وضع الرئاسة طيلة سنوات بمثابة مرفق للقيام بالبروتوكولات والخطابات، كلام بلا قدرة تنفيذ، مازلت أذكر الندوة الصحفية للرئيس الباجي قايد السبسي عندما تحدث أنه ليس "بوسطاجي " بين رئاسة الحكومة والبرلمان، أيام إقرار تحوير وزاري دون استشارته... كان عليما لدى الجميع أن هذه الحالة آيلة لزوال، فإن كان عامل السن وانهيار الحزب الحاكم حاسما في إضعاف الرئيس آنذاك فإن هاته العوامل إنتهت بصعود رئيس جديد.
لقد تحدث الجميع عن أن الدستور عطل البلاد تعطيلا، لكن كلهم لم يقدموا تحويرا واضح المعالم، فلقد منحتهم السلطة مجالا لتنفيذ سلطاتهم المقسمة وكل في حاجة للآخر ودامت المصالح وضاع الوطن.. القرارات الاستثنائية هي ردة فعل عن تلك الأحزاب التي راكمت حربا شعواء ضد الرئاسة، تلك الحرب التي انطلقت من بعد الثورة وتم تهميش دور الرئيس في كل مرحلة... وظلت الدولة قائمة على تفاهم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، في ذلك اللقاء الذي منه نفهم أن الدولة معطلة أم لا، تماما كمثل تواجد الأحزاب وممارستها للسياسة ظلت قائمة على تلك اللقاءات الثنائية بين رؤساء الأحزاب ورئيس الحكومة، وتبنى الأحزاب استراتيجيتها عليها دون رسم سياسات أو تشاركية حزبية أو برامج...
هنا، انتقلنا في التحليل من أطراف المنظومة إلى المنظومة بأكملها، هي منظومة "اللقاءات الثنائية" و"العلاقات الضيقة" وظلت على حالها بلا بناء مؤسسات دستورية ولا هيئات ضامنة لصلابتها وديمومتها.. اليوم، إن رغبنا في بناء جديد فلا بد منا أن لا نكرر أخطاء الماضي ، وإن فشلت الأحزاب السياسية في تحمل المسؤولية فذلك أمر يخصها، إن الحياة السياسية ليست فقط تلك الأحزاب الحالية التي فشلت، وإخراج الأحزاب من المنظومة يجب أن لا يكون سببها فشلهم، هنالك جيل جديد مؤمن بأن الحياة السياسية لا تشتغل إلا بالأحزاب، لم يتحزب ضمن هاته الأحزاب ولكن يطمح لأحزاب أخرى قادرة على تحسين أوضاع البلاد..
ما أريد أن أبلغه هو أن التغييرات المحورية في النظام السياسي مستقبلا يجب أن تستوعب الماضي والحاضر والمستقبل وأن لا تكون فقط عقابا ومحاسبة للأحزاب التي فشلت سابقا، كما أنها يجب أن تكون مرفوقة بتشريك النخبة، نخبة البلاد ليست كلها انخرطت في الأزمة التي شهدها الوطن.
إن هبوب الناس نحو الحاكم ليس دليلا أن لديه حلولا سحرية لكل شيء وإن تأييد الناس ليس دليلا على قدراته أن يحكم. لقد كان خفيا على عديد الحاكمين عبر التاريخ أنه لا يحكم شعب بعيدا عن نخبته. إن نسيان النخبة والإفراط في التماس الحق من الشعب، ينبغي أن لا يغيب النخبة.
وهنا، أريد الإشارة أيضا إلى النخبة الاقتصادية التي كانت بعيدة عن التسيير في الفترة الماضية ولكنها كانت دوما تحذر وتنصح وتقدم حلولا ومقترحات.