مرّت جلسة منح الثقة لحكومة المهدي جمعة في ظروف استثنائيّة جدّا فكانت أشبه بجلسة مساءلة، بل جلسة محاكمة. فالرّجل الذي رضي بتحمّل وزر ثقيل في ظروف يعلمها القاصي والداني كادت تمرّ فيها البلاد بمنزلق خطير من الفوضى والعنف وتفكك أوصال الدولة لا نخاله كان يتصوّر أن يكون محلّ انتقادات لاذعة واتّهامات خطيرة رغم أنّه لم يباشر بعد مهامه كرئيس للحكومة. ورغم حرص الرّجل وسعيه للاختيار الدقيق لوزراء تتوفّر فيهم الكفاءة والحياد والاستقلاليّة ونظافة اليد والطموح وحب الوطن فإنّ ذلك لم يشفع له ولم يجنبه مواجهة السيل الجارف من الانتقادات، فكان أشبه، و هو جالس أمام نوّاب التأسيسي، بريشة في مهبّ الريح أو كسفينة تتلاطمها الأمواج. فهذا نائب يلقّن دروسا في الوطنية، وأخر يسخر وأخرى تهدد بكشف المستور وآخر يرمي بالغيب ونائب آخر يتوعد بعدم المصادقة على الحكومة ونائب يعربد ويصيح. لكن الواقع والصحيح أنّ هذه الجلسة التي تحوّلت إلى مجلس تأديب كلّ يرفع في سقف العقوبة قدر المستطاع الا إذا تعهد التلميذ بتطبيق التعليمات كانت بمثابة الفرصة الأخيرة للأحزاب الممثّلة في المجلس التأسيسي حتى تثبت للرأي العام، ومن ثمّة لنفسها، رضاءها التّام عن آدائها واقتناعها بتحقيق مغانم وهميّة وانتصارات خياليّة. فأحزاب المعارضة كما أحزاب الترويكا، حرصت جميعها قدر الإمكان على أن لا تفوّت الفرصة لترفع عاليا سقف طلباتها وانتظاراتها من حكومة تفتقد لأي غطاء حزبي ولا تحظى بكامل أطياف المشهد السياسي. السيد مهدي جمعة رأت فيه المعارضة المهدي المنتظر الذي سيخلّص البلاد والعباد من حالة الفوضى والفقر والبطالة والتهميش والفساد وتوسمت فيه أحزاب الترويكا خيرا حتى يزيح عنها وزرا باتت تنأى عن حمله. ولو تأمّلنا قليلا في شكل سير جلسة المصادقة على الحكومة وحيثيّاتها وتأخّر النواب في المصادقة عليها إلى ساعة متأخّرة من الليل رغم التوافق مسبقا، لفهمنا أنّ كلّ مداخلات النواب حملت رسائل مشفّرة أحيانا وصريحة أحيانا أخرى. فنواب الترويكا وفي سياق عرضهم لانتظاراتهم من حكومة المهدي جمعة يصرّون على نجاح حكومة على العريض ومن قبلها حكومة حمادي الجبالي وبلوغهما شوطا مهمّا في تحقيق أهداف الثورة محمّلين جمعة مسؤوليّة المواصلة على «درب نجاحات الترويكا» وينصحون له بأخذ العبرة من «الزّلات والهفوات» التي ارتكبتها الحكومات السابقة. وهم بذلك يخففون وطأة المقارنة بين أداء حكومة جمعة (التي يتوقع لها الجميع النجاح) وأداء حكوماتهم التي وصفت بالفاشلة والعاجزة والمتسببة في الانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي وتفشي ظاهرة الإرهاب. وكأن نواب الترويكا وخصوصا نواب النهضة يريدون إيهام من حولهم بنجاحهم المنقطع النظير في سعي منهم لإنقاذ ما تبقى لهم من ماء الوجه. وفي المقابل فإنّ نواب المعارضة (وحتّى أولائك الذين تحفّظوا على اختيار المهدي جمعة) سعوا جاهدا من خلال رسم ملامح أولاويات حكومة جمعة والتحدّيات الجسيمة التي تنتظرها إثبات فشل حكومات الترويكا وتعليق كلّ الآمال على جمعة ووزرائها حتى يؤكّدوا هذه «الحقيقة» التي يرفض الطرف المقابل(الترويكا) الاعتراف بها وهم بذلك يحملون الرجل ما لا يطيق. كيف لا وقد اعترف سابقا أنه لا يحمل عصا سحرية لتغيير الأوضاع ؟ ولا نظنّ أنّ نوّاب التأسيسي (الترويكا والمعارضة) الذين صادقوا على الدستور في سنتين ونصف السنة، وسط تجاذبات واحتقانات وصراعات مريرة، بغافلين عن عجز جمعة ومن معه على تحقيق كلّ مطالبهم التعجيزيّة فهم يدركون مسبقا أنّ حكومة المهدي هي حكومة مؤقتة ستعنى أساسا بتسيير شؤون البلاد في فترة لن تتجاوز على الأقصى السنة الواحدة. ومن ثَمّ، فإنّه من السذاجة الاعتقاد ولو للحظة أن في سنة 2014 الخير سيعم البلاد وأن الأمن سيستتب وأن الإرهاب سيختفي وأن قتلة البراهمي وبلعيد سيقدمون الى المحاكمة بفضل بركات السيد جمعة وتشكيلته الوزارية. حكومة المهدي جمعة التي حظيت رغم كلّ الانتقادات ب 149 صوتا من جملة 193، أي بنسبة تجاوزت 77 % (وهي نسبة عالية جدّا بالنظر إلى التسريبات التي لمّحت إلى إمكانية عدم منحها الثقة وحجم الانتقادات والاتّهامات وتأخّر المصادقة عليها) ستكون حتما أمام امتحان عسير. فكل الآمال معلقة عليها. فشلها أو نجاحها سيكون حتما بمثابة المحرار الذي سيقيّم من خلاله كلا الطرفين صحّة توقعاته وتخميناته.