في الشارع الرئيسي لمدينة "بنقردان" التونسية الحدودية المكتظ بالبنوك، انتصبت سوق مالية عشوائية لها قوانينها وآليات عملها الخاصة، ويتأثر فيها سعر الجنيه الليبي، والدولار، واليورو، والدينار التونسي بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد مثل أي سوق مالية في العالم. مئات من العائلات في بنقردان الواقعة جنوب شرقي تونس تعيش على ريع هذه السوق الذي يطلق عليه اسم "وول ستريت بن قردان" وتقلباته في انتظار شغل قار (ثابت) قد يأتي وقد لا يأتي. وتقع سوق بنقردان في الشارع الرئيسي لمدينة "بنقردان" التي تعد بوابة تونس في اتجاه ليبيا (تبعد عن الحدود الليبيبة حوالي 25 كم)، وبوابة المغاربة نحو الشرق، وتتميز هذه السوق ،منذ أكثر من ثلاثة عقود، بأنها إحدى أهم الأسواق السوداء لصرف العملة عبر العالم. وحول السوق السوداء للعملة في "بنقردان"، قال محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري، "ليست لنا أرقام محددة (يقصد حول حجم التعاملات في هذه السوق) ونعتقد أن النسبة ليست كبيرة وليس لها تأثير على الاقتصاد"، مشيراً إلى أن قيمة الصرف في السوق هي نفسها في البنوك التونسية. في هذه السوق، لا شرعية للمكان سوى شرعية الرزق، وتوفير لقمة العيش، وما توفره من فرص شغل لمئات من خريجي الجامعات في المددن التونسية، وخاصة أبناء "بنقردان" ومدن غرب ليبيا، والذين يعيشون منذ أكثر من ربع قرن على ريع هذه السوق وتقلباتها التي عرفرها منذ زمن، حسب أحمد (26 عاماً) صاحب أحد المحلات في السوق، متحدثاً للأناضول. في الشارع الرئيسي للمدينة، والذي يسميه ساكنوها ب"شارع الصرف"، يوجد أكثر من 300 محل لصرف العملة والمضاربة بها، فضلاً عن 5 بنوك رسمية تكابد البقاء بجوار "دورة مالية موازية" فرضت نفسها على كل المؤسسات المالية العمومية والخاصّة في هذا البلد. وفي هذا الشارع أيضاً، سواء كان الضيف من قوافل المسافرين من تونس نحو ليبيا أوالعكس، أو حتى ممن يرغبون في تبديل العملة خارج البنوك (نظراً لأسعار الصرف المغرية ) ما عليه سوى التوجه إلى صاحب المحل، والاختيار بين العروض المقدمة، أو أن ينتقل لمحل مجاور (عادة لا يختلف كثيراً في السعر) إن لم يعجبه العرض. وتتميز المحلات في الشارع الذي يبلغ امتداده 2 كم، بصغر حجمها، وتعمل على مدار ال24 ساعة، وتستقبل يوميا آلاف الراغبين في تغيير العملة، وخاصّة من التجار الذي يعملون بين تونس وليبيا، حسب تجار في السوق. "رضوان" (30 عاماً) هو أحد الشبان العاملين في هذه السوق، دفعت به البطالة بعد تخرّجه من إحدى الجامعات إلى العمل في محلّ أحد أقاربه. و اعتبر رضوان العمل فيه هذه السو "الملجأ الوحيد الذي "وجده "بعد رحلة بحث طويلة عن فرصة عمل في القطاع الحكومي أو الخاصّ رغم المؤهلات العلمية". وفي محيط "شارع الصرف"، توجد "الرحبة" (سوق بالجملة) التي تمثل المنطلق الأول لبيع العملة بمبالغ مغرية، خاصة لصرف الجنيه الليبي، والدولار، واليورو، حيث يجتمع كبار التجار البالغ عددهم قرابة العشرة أشخاص. وحسب أسعار تداول سعر العملات الأجنبية في البنوك التونسية أولاً، وبحسب العرض والطلب ثانياً، وحركة المعبر الحدودي "رأس جدير" (بين تونس وليبيا) ، يتحكّم كبار التجّار في الأسعار التي عادة ما تكون مناسبة أكثر من أسعار صرف العملة في المؤسسات البنكية أو مركز البريد الرسمي المحاط بدوره بعشرات محلاّت الصرف. ورأى الخبير الاقتصادي، رفيق جراي، أن المعاملات التي تقع في "الأسواق المالية الموازية " (أي التي تشبه سوق بنقردان)، "تنعدم الرقابة حولها وهي أسواق حرّة خلافاً للمعاملات الأخرى التي تكون عليها البنوك التونسية من خلال جملة من القوانين تنظم القطاع وتستند أساساً إلى ثنائية العرض والطلب الذي مهما كانت نتائجه يحاول البنك المركزي التونسي إقامة نظام تعديلي عليه". وأوضح جراي أنه لضمان الاستقرار المالي في السوق المالية التونسية كحال البورصة العالمية و كبرى البنوك في العالم، يتذبذب مستوى الأسعار في سوق صرف بنقردان التي تشهد أسعار العملة فيها تفاوتاً بين اليوم والآخر، وذالك حسب الحالة الأمنية في ليبيا بعد الثورة. وفي هذا الصدد أعطى أحد التجار الذي رفض الكشف عن اسمه مثالاً لتذبذب مستوى الأسعار في سوق "بنقردان"، وهو أنه، "مع بداية الأحداث في ثورة 17 فبراير/فيفري 2011 في ليبيا نزل سعر الجنيه الليبي إلى أدنى مستوياته حيث بلغ 30 جنيه (23 دولار أمريكي)، مقابل ال 100 دينار تونسية (63 دولار أمريكي)، وبعد أن اكتملت الثورة الليبية عاد سعر الجنيه الليبي شيئاً فشيئاً إلى مستواه الطبيعي : حوالي 125 جنيها ليبيا (99 دولارا) مقابل 100 دينار تونسي، ليعود للتذبذب مرة أخرى بسبب الوضع الأمني الذي تعيشه ليبيا. من جهته، ذكر الخبير المالي عبد الحميد بوسعيد أن حجم التداولات المالية العامّة في سوق "بنقردان" لا يقلّ عن 400 مليار تونسي يوميا (252 دولارا). ورغم إقراره بخطورة هذه الحركة المالية الموازية على الاقتصاد التونسي، اعتبر عبد الحميد، في الوقت نفسه، أن هذا النشاط "يمثّل مورد الرزق الرئيسي لمئات العائلات، ولا يمكن منعه أو الاستغناء عنه فجأة". وحول التأثير السلبي لحجم المبادلات في هذه السوق على الدولة، قال الخبير الاقتصادي، رفيق جراي، إن "لهذه السوق تأثيرا سلبيا من حيث أن الدولة تكون محرومة من الأداءات التي قد تدخل إلي حساب الميزانية التونسية من وراء هذه المعاملات غير المكشوفة، والتي تكون التجارة الخارجية أهم العوامل المتحكمة فيها". وفي هذا الصدد أوضح أن " أغلب التجار عندما يستوردون بضاعة من الخارج مثل الصين أو تركيا، يكونون مجبرين على كشف حساباتهم عند الهياكل الديوانية في البلاد، ولكن أغلبهم لا يقومون بعملية الكشف إلا عن نسبة 20 بالمائة من الأموال ، ويقومون بتصريف ال80 بالمائة من العملة المتبقية في الأسواق الموازية و منها سوق بنقردان.