تُمْعِنُ السياسة الغَرْبيَّةُ الأمريكيَّةُ /الأوربيّةُ في سقوطِها الحضاريّ والأخلاقيّ مُنْقَطِع النظير ، خاصَّةً حينَ يَرْفَع هذا الغَرْبُ شِعاراتٍ قِيَميّةًُ مَزْعُومَةً كالحريّةِ والدِّيمقراطيّة ومُناهَضَة الديكتاتوريّةِ ، ويُمارِسُ مُتَذَرِّعاً بهذِهِ القِيَم أبْشَعَ المَجازِر ضدَّ الإنسانِيَّة ، ولا يَتَرَدَّدُ في شَنِّ الحُرُوب وتدميرِ الدُّوَلِ واحْتِلالِها وقَهْرِ شُعُوبها. فالحرْصُ الكاذِبُ على تَمْتِيعِ الشَّعْب العِراقِيّ بالحريّةِ والديمقراطيّةِ التي "غَيَّبَتْهُما" عَنْهُ ديكتاتُوريّةُ الرئيس صدّام حسين جَعَلَتاهُ فَرِيسَةَ حِصارٍ تجويعيّ حتى الموت دام ثَلاثَ عَشَرَةَ سَنَة بَعْدَ أنْ تناثرت أشلاء أطفالهم ومِزَقُ فَرْوَةِ الواحِدِ منهُم على جدرانِ مَلجأ العامِريّة - وقد شاهَدْتُ آثارَ هذه الجريمة بأمِّ عيني - ، ليتْبَعَ ذلكَ احْتِلالٌ عسكرِيٌّ هَمَجيٌّ تَفَتَّحَتْ في ظلِّهِ "زُهُورُ" الدّيمقراطيّةِ الغَربيّةِ في سجْنِ أبي غريب قَذِرِ السّمْعة ، وتَشَظَّتْ وحْدَتُهُ الوطنيّة تُرابيّاً وإدارياً وديمغرافيَّاً بفِعْلِ سياسَةِ التّهييجِ الاستِعماريّةِ لِلوَلاءاتِ العِرْقِيَّةِ والعَشائريّةِ والدينيَّةِ والطائفيَّةِ التي باتَ مُتَعَذِّراً إخمادُها في المَدَى المَنظور بينما ثروات العِراق الطبيعيّة والبشريّة و شواهده الحضاريّة تُنْهَبُ وتُغْتالُ وتُسْرَقُ وتُدَمَّرُ . وهذا الحرْص ذاتهُ على "تخليصِ" الشَّعْب الليبي مِن الدكتاتور معمّر القذّافي تُرْجِمَ في أسابيع معدوداتٍ بتحويلِ "جَمَاهِيريَّتِهِ" إلى حُطامٍ وجَعْلِها جِهاتٍ تتباعَدُ بالنَّعْراتِ العَشائريّةِ والميليشيات الإرهابيّة المُسَلَّحَةِ بينَما ثرْوَته النفطيّة والغازِيَّةِ تَذْهَبُ بينَ أطْماعِ شركات الدُّوَلِ الغَرْبيَّةِ الغازِيَةِ وتَطَاحُنِ الميليشياتِ الباغِيَةِ على الفتاتِ. والحرْص عَيْنهُ على "تحريرِ" الشَّعْبِ السُّوريّ مِن دكتاتوريّةِ رئيسِهِ الشرعيّ المُنْتَخَب دَفَعَ هذا الغَرْبَ "الديمقراطيّ" وأدواته الإستراتيجيّة في الخليج الأعرابيّ وتركيا العثمانيّة وكيان الأردن الوظيفيّ إلى أن يستَعِينوا بالجَّماعاتِ الإرهابيّةِ التكفيريَّةِ ورُهُوط المُرتزِقةِ ومنظماتهم على غرار"بلاك ووتر /الماء الأسود" سليلة "فرسان القدّيس يوحنّا" الصليبيّة ، لتدمير البنى الأساسيّة للدولة الوطنيّة وإشاعة المجازر في القُرى والمُدُنِ السورية. فهذا الغَرْبُ المُتَطاوِسُ بحضارَتِهِ وديمُقراطيّتِهِ المزعُومَتَيْنِ لم يَجدْ حَرَجاُ ( وهُو يُسْبغُ نِعَمَهُ على شُعُوب مَنْطِقتنا) في أن يستخدِمَ الجَّماعات التي تجهر بعدائها للديمقراطيّةِ والحريّةِ رافِعَةً الرّاياتِ التكفيريّة السّوداء ، وَمُطْلِقةً عُواءها الوَحْشيَّ أيْنَما حَلَّتْ فتجلِد وتأخذُ الجزْيَةَ وتقتِل وتذْبَح وتقطع الأيدي والأرجُلَ والرؤوسَ على مَرأى مِن عُيُون الغرب الذي تُسبغ عليها منابرُهُ الصّفات "الثّوريّة" و"التحرّريّة". وإذا كانت آلةُ التّضليلِ الإعلاميّةُ الغرْبيّةُ قد نَجَحَتْ إلى حينٍ في اجْتِرارِ الخطاب "الدّيمقراطيّ" المَجّاح كغِطاءٍ لِلجرائم التي ما فتئ يرتكبُها هُو وأدَواتُه ضدَّ شُعُوبِنا العرَبيّة ، فإنَّ هذهِ المأساة سُرْعانَ ما انْقَلَبَتْ إلى مَهْزَلَة عندَما اسْتَعانَ الغَربُ بمُنَظَّماتٍ نازيّة مِن أجْلِ إشاعةِ "فَوضاهُ الخلّاقة" في أوكرانيا والإنقِلابِ على حكومةٍ مُنْتَخَبَة ديمُقراطياً مُتَجاهِلاً حقيقة أنّ أوكرانيا سَبَقَ وأن حصَلَتْ على حُريّتِها وأنَّ الحكومة التي انقلبَ عليها تمخَّضتْ عنها انتخاباتٌ حُرَّة ، وكان بعضُ عُمَلائهِ جزْءاً مُشارِكا في الحكومةِ ذاتها!، كما أرادَ "كزافيي تيري" تذكيرَ "برنار هنري ليفي" الذي ظَهَرَ فجأةً في "كييف" مُحاطاً بالمُحْتَجِّين النازيين ، تماماً كما سَبَقَ وأن ظَهَرَ في ليبيا بين المُتَعاوِنينَ مع الغُزاةِ /"ثوّار الناتو" الذينَ وَصَفَهُم القذّافي بالجّرذان ، وظَهَرَ لاحِقاً في أوساط رُهُوط "المُعارِضين" السوريين في باريس. فالوقائع الدّامِغة تؤكّدُ أنّ ما شَهدَتْهُ أوكرانيا ليسَ "انتِفاضَةً شَعبيّة" غضِبَ المُشارِكونَ فيها مِن عَدَمِ توقيعِ الحكومة الأوكرانيّةِ على الإتفاقية الإقتصاديّة مع الإتحاد الأوربي كما نَبَحَتْ أبواق الإعلامِ الغَرْبيّ ، ولا هِيَ مُجَرَّد صِراع على السُّلطة كان يُمكِنُ تَفادِيه كما مَاءَ "بيتر سيمو نينكو" زعيمُ الحزبِ الشيوعيّ الأوكرانيّ مُدَّعياً أنّ "استفْتاءً عامَّاً لو أجْرِيَ كان مِن شأنِهِ أن يُتيحَ المَجالَ أمامَ الشَّعبِ الأوكرانِيّ لِتَحديدِ مَسارِ تَطَوُّر البلاد"أسْوَةً بمُواءٍ مُماثِلٍ صَدَعَ بهِ رؤوسَنا رفاقُهُ اليساريّون العَرَبُ العراقيّونَ والسوريّون خاصّةً. إنَّ "الكتْلةَ اليمينِيَّة" التي تَصَدَّرَتْ الحِراكَ المَشْبُوهَ في أوكرانيا تتكَوَّنُ مِن أحزابٍ قوميّة مُتَطَرِّفَة وجَماعاتٍ فاشيّة بَيْنَها حزْبُ "الحُريّة" الذي تأسَّسَ عام 1991وَدَعَتْ مُنَظَّماتٌ دَوليَّةٌ غَربيّة تحديداً إلى حَظْرِهِ لأنَّهُ حزْبٌ نازيٌّ جديد ، وفي سنة 2012احْتَلَّ زعيمُهُ "أوليك تاغنبوك" المرتبة الخامسة في قائمةٍ ضَمَّتْ أخطَرَ عشرة أشخاص "مُعادِينَ للسّاميّة"، وبينَ أحزاب تلك الكتلة أيضاً "حزب وطنيي أوكرانيا" و"المجلس القومي الأوكراني" وغيرهما مِن القوى الأوكرانيّة الفاشيّة التي تُجْمِعُ على عَدِّ" منظّمةِ الأوكرانيين القوميين" سيّئة السّمْعَة ، مَرْجِعِيّة مُقَدَّسَة لها ، علْماً أنّ المنظّمة الأخيرة كان قد أسَّسَها عَمِيلٌ لألمانيا النازِيّة يُدعى "ستيبان بانديرا " مِن أجل النشاط ضدَّ الاتحاد السوفياتي، وإليها تُنْسَبُ أبْشَع الجرائم التي اقْتُرِفَتْ خلالَ سَنَوات الحرب العالميّة الثانية. وَالمُفارَقَةُ هُنا - وما أكثر مُفارَقات السياسة الأمريكيّة! - أنّ الولايات المتّحدة وحليفاتها الأوربّيات تدعم حزبَ "الحريّة" الأوكرانيّ الذي بين أعضائه 12 ألف عنصر مُسلّح ، بعشرين مليون دولار أسبوعياً ، ضمن مُخَطَّطٍ لِإحياءِ النازية في أوكرانيا بدأ الإعداد له قبلَ سنتين من أحداث "كييف" الأخيرة ، وأثمَرَ ليس فقط ما كشفت عنه المكالمة الهاتفية بين "كاترين أشتون" ووزير خارجية أستونسيا "أورماس بايت" قال فيها الأخير إن جميع الشهادات الموثّقة تؤكّد أنّ هؤلاء المسلّحين النازيين هم الذين كانوا يطلقون النار على "المحتجين" في "كييف" وليس رجال الرئيس " فيكتوريانو كوفيتش" المعزول، بل إنّ مِن الثِّمار ما سُرِّبَ عن أنّ القنّاصة الذين ظهروا في تونس عشيّة إطاحة الرئيس زين العابدين بن علي جُلِبوا مِن أوكرانيا وأعِيدُوا إليها. إنها إذن ثِمار دَعْمٍ أمريكيّ لِمُنَظَّماتِ "الكتلة اليمينيّة" الأوكرانية بدأ مع عَهْد الرئيس الأمريكيّ الرّاحل "رولاند ريغن" لأهدافٍ تَجَسُّسيّةٍ ، وفي اليوم الثالث عَشَر مِن شَهْر كانون الأوّل / ديسمبر الماضي أدْلَتْ " فيكتوريا نولاند" مساعدة وزير الخارجية الأمريكية الحالي "جون كيري" بتصريح قالت فيه : " لقد استَثْمَرْنا أكثر مِن خمسةِ مليار دولار منذ سنة 1991 (العام الذي ظهر فيه حزب الحرية النازي) لمساعدةِ أوكرانيا على تطوير مفهوم الدّيمقراطيّةِ فيها" . إنَّ ما أشاعَتْهُ وسائلُ الإعلامِ الغَرْبيّة عن "مواجهة بين (سلطة مُجرِمَة) و(مُتظاهِرين سلميّين) " كما كانت تشيع عن الأحداث التي شهدتها ليبيا وسوريا مثَلاً ، كان في الحقيقةِ إقدام القوى النازيّة الأوكرانيّة على استِفزازاتٍ الهدَف مِنها تصعيد الأحداث ووقوع المواجهات الدّامية مع السلطة الدستورية الأوكرانيّة ، وصُولا إلى أعمال تخريب وقَتْل إنتِقامِيّة شملتْ حتى تماثيل لينين وأبطال الحرب ضدّ الفاشية ، تماماً كما قامت وبدَوافِع مُوازِية ولكن شبيهة بما ارتكبَتْهُ الجّماعاتُ التكفيريّة في سوريّا مِن كَسر رأس تمثال أبي العلاء المعرّي وتدمير الكنائس ومقامات الأولياء إلى غير ذلك مِن المُمارسات الطائفيّة الحاقِدَة والجَّهُولة. والخطيرُ أنّ هذهِ القُوى النّازيّة الجديدة تستَهْدِفُ مُكَوِّناتٍ عِرْقِيّةً عديدةً مثلَ الرُّوس الذين يُشكّلون 17,3 بالمئة ، والبيلاروس: 6بالمئة ، وتتار القرم والمولداف الذين يشكل كل منهم : 0,5بالمئة ، والبلغار :0,4بالمئة ، والمجر والرومانيون والبولنديون الذين يشكل كلٌّ منهم 0,3بالمئة ، واليهود والأرمن واليونان والتتار الذين يشكل كُلٌّ منهم 0,2بالمئة. وكان النازيون الجدد يُراهِنُونَ على التباعُد الثقافي بين سكّان غَرْبِ أوكرانيا وشَرْقِها ، لإضرامِ حرب أهلية. وإذا كانَ ثمّة مَن يَجْتَهدُ في أنَّ وَراءَ دَفْع الأوكرانيين إلى هذا النّزاع أو التدمير الذاتي أيديولوجيا ترتكز عليها المؤسسةُ البريطانيّة الإقتِصادِيّةُ المُهَيْمِنَةُ عبْر مؤسّساتِها الماليّة على الأنظمةِ السياسيّةِ في الغَرْب ، مُتَقَصِّدَةُ عن وعْيٍ وسابق إصرار تدمير اقتِصاد بلدانِها هِيَ على حساب شُعُوبِ هذه البلدان ، لدرجةِ أنَّ الأزمة المالية والإقتصاديّة في هذه الدُّوَل باتَ مَيؤوساً مِن إيجادِ حُلُولٍ لَها على الرغمِ مِن مُحاوَلاتِ الإنعاشِ التي بدأتْ سنة 2008 بضَخِّ "السّيولة النقديّة" بصورة غير مَسبُقة . وإذا كانَ التدمير الذاتي مِن سِماتِ الإمبراطوريّاتِ التي تلجأ إلى الشرِّ في حُدُودِهِ القُصْوَى، مُذَكِّرَةً في هذا السِّياق بمُحاوَلَةِ إشْعال حَرْبٍ إقليميّةٍ فَعالَمِيّة ربّما إتكاءً إلى شَنِّ عُدْوانٍ على سوريا في شهْر آب/أوت الماضي ، أجْهَضَتْه حِنْكَةُ الدّبلوماسية الرُّوسيّة - وقَد ذَكَّرناأصحابُ هذا الإجتِهاد لِدَعْمِهِ بما فَعَلَتْهُ النّخْبَةُ المالية العالميّة المُتَمَركِزَةُ في لندن وربيبتُها في شارع المال "وول ستريت" بمدينة نيويورك سنة 1933بتمويل الحزْب النازي مِن قِبَلِ المصرف المركزي البريطاني مُمَثَّلاً بشخص "مونتغيو نورمن" ومِن المصرف الأمريكي /هاريمان برذرز مُمَثَّلاً بشَخص "بريسكت بوش" جَدّ الرئيس جورج بوش ، وبالتالي حَذَّرَ هذا الإجتِهاد مِن اندِلاعِ حَرْبٍ عالميّة انطِلاقاً مِن الأزمةِ الأوكرانيّة عبْرَ زَجِّ الولايات المتّحدة في مُواجَهَةٍ مع روسيا ، إذا لم يتمّ عَزْلُ الرئيس "باراك أوباما" الذي وُصِفَ بأنّه أداة المؤسسة البريطانية المذكورة... إلّا أنَّ مانَراهُ - مع تقديرنا لهذا الإجتهاد وضرورة أخذِهِ في الحسبان - هُوَ أنّ الدّافعَ إلى مُحاوَلة إشاعة "الفوضى الخلّاقة صهيو أمريكيا" في أوكرانيا وُصُولاً إلى حَرْب أهليّة وقودُها الأوكرانيون ومُواطِنوهم من ذَوِيِّ الأصْلِ الرّوسي ، هُوَ النَّيْلُ مِن المَصالِح الرُّوسيّة وخاصة في شبْهِ جزيرةِ القرم المتمتّعة بحكم ذاتي ، والتي منَحَها لأوكرانيا الزعيم السوفياتي "نيكيتا خروتشوف" ( ولد في 15 نيسان /أفريل1894 في بكالينكوفا بمقاطعة كورسك الواقعة على الحدود الفاصلة بين روسياوأوكرانيا) تشجيعاً لها على الإنضِمام إلى الإتحاد السوفياتي عام 1954 ، وبدَوْرِه عزَّز هذا الأمر الواقِع الزعيم السوفياتي الأوكرانيُّ الآخَر "ليونيد بريجنيف" ( ولد ليونيد بريجنيف في 19 كاون الاول / ديسمبر عام 1906 في مدينة كامنسكوي - دنيبرودزيرجينسك حاليا-الأوكرانية)، وكما هو مَعلوم فإنّ ميناء جزيرة القرم الوحيد يحتضن أسطول البحر الأسود الروسي ). ويُعَوِّلُ الأمريكيّون وحلفاؤهم عل أنَّ روسيا لن تقبل بحكومة أوكرانية قد تكون دفّتها في قبضة حزب"الحريّة" الذي تعودُ جذورُه الفكريّة إلى ثلاثيناتِ القرن المُنْصَرِم ، والذي عُرِفَ أسلافُهُ بتعاوُنِهِم مع الجيوش النازية لاحتِلال البلاد ، لاسيما وأنّ روسيا كانت قد قدَّمَت ثلاثين مليونَ شهيد مِن مُواطِنيها ذَوْداً عن حياضِها ضدَّ الغَزْوِ النازِيّ لأراضيها خلالَ الحرب العالميّة الثانية. ولكن غابَ عن الحُمْق الأمريكي أنَّ روسيا التي يجري استفْزازُها يقودُها زعيم استثنائي هو "فلاديمير بوتين " الحريص على استِعادة كُلّ ذرّة مِن تُراب وطنه تمَّ التفريطُ بها في أي ظرف تاريخيّ ، وعلى ترسيخ دور روسيا كقطب آخَر فاعل بامتياز في إدارة السياسة الدولية ، والذي يحظى بإرادة وطنيّة تجذب إليها قلوب وعُقول المواطنين الرُّوس الذين ينظرون بحَسْرَة إلى كلِّ شبْرٍ مِن تُرابِهِم الوطنيّ تمَّ التَّفْريطُ به في العَهْد السوفياتيّ خاصّةً ، فكانت الأزمةُ الأوكرانيّةُ الضارَّةَ النافِعَة لِرُوسيا ، والسُّمَّ الزُّؤامَ الذي سَيَتَجَرَّعُهُ الأوكرانيّون مِن جرّاء حَماقاتِ مواطنيهِم النازيين الجدد الذين يدعُونَ إلى "صفاء" العِرْق الأوكراني وَمُقامَرَة الغَرْب بِهِم وبمُستَقبَلِهِم ، ذلكَ أنَّ عَوْدَة شبْه جزيرة القَرم إلى حُضْن روسيا الأم حلم كل مواطن أوكراني مِن أصلٍ رُوسيّ ، ناهيكَ عن أنّ مواطنيّ الشَّرْق الأوكرانيّ يتكلّم مُعظَمُهُم اللغة الروسية وينعمونَ بعائدات مالية ضَخْمَة مِن جرّاء التجارة الناشطة مع روسيا ، بينما يُعاني مواطِنوا الغَرْب الأوكراني الذين يتكلمونَ اللغةَ الأوكرانية مِن أوضاعٍ مَعيشيّة مُزْرِيَة ، وفي حين يبلغ التبادل التجاري الأوكراني سنويا مع روسيا الخمسينَ مليار دولار ، فإنه لايصل مع الغَرب الأوربي حتى إلى خَمسةِ مليارات دولار ، وكما هي عادة الغَرْب مع الدّول والشعُوب التي يُغامِرُ ويُقامِرُ بالتدخُّلِ في شؤونِها فإنّه سَيَتْرِكُ مُواطِنِيّ غَرْب أوكرانيا لِمَصيرهِم الذي سيزدادُ بؤساً عندَما تتخَلّى روسيا عنهم . والمفارَقة هُنا أنّ هذا الغرْب الفاجر الذي كان يدعو إلى حَظْرِ ومُعاقبَةِ المنظمات النازية الأوكرانية كحزب "الحرية" العضو في تحالُفِ الحركاتِ القوميّة الأوربيّة الذي يضمّ أحزاباً فاشيّة مثل حزب "جوبيك" الهنغاري والحزب القومي البريطاني ، يغضّ الطّرفََ الآنَ عن جرائمِ الأحزاب الأوكرانية النازية ، وتتدافَع حكوماتُهُ إلى فَرْضِ العقوبات على روسيا. ولا شكَّ في أنَّ المُفارَقَة الأخرى في الملفِّ الأوكراني هي التَّوَرُّط الصهيوني في أحداث "كييف" ، فالصّهاينة الذينَ يبتزّون الغرْبَ منذ قرْن بأنّهم كانوا ضحايا النازية الأوربيّة ، يتحالفون علناً مع القوى النازية الأوكرانية ضدّ روسيا . ولئن كانوا يُحاوِلون إيجاد غطاء لتدخّلهِم بالزعم أنهم يقدّمون مساعدات عاجلة ليهود أوكرانيا ويعملون على تعزيز أمن المؤسسات اليهودية فيها ، فإنّ الوقائع تؤكد على دَورٍ تخريبيٍّ لجهاز "الموساد" الإسرائيلي إلى جانب القوى النازية الأوكرانية ، كما أنَّ الدوائر الصهيونية كانت تحضّ على تدَخُّلٍ عسكريّ في أوكرانيا ضدّ تدخُّلٍ روسيّ مزعوم ، بل إنّ التضليل الصهيوني المتواطئ مع الحراك النازيّ الأوكرانيّ حدا بفيلسوف "الربيع العربي" وقائده الفكري الميداني الفرنسي الصهيوني "برنار هنري ليفي" إلى الرَّبْطِ الصّفيق والتحريضيّ والزائف بين "القمْع الحكوميّ" المزعوم للمتظاهرين في كييف وبين "مذابح القوقاز بحقّ اليهود ، ومجازر المجاعة التي نفّذها ستالين ، وضحايا الهولوكست في بابي يار الأوكرانية " مما حدا بصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية إلى القول :"إنّ ليفي الذي طالما نادى بالتدخّل العسكري مِن سراييغو إلى سوريا ، لم يعترف يوماً بأنّه أخطأ وأساء التقدير " مُذَكِّرَةً بالنتائج العكسيّة للتدخُّلِ العسكريّ في العراقِ وليبيا ، ومؤكِّدَةً بأنَّه "مِن الصَّعب جدّاً تَذَكُّر أيّ تدَخُّلٍ عسكريّ نَجَحَ في تحقيقِ أهدافِهِ خصوصاً حينَ نتحدَّث عن تَدَخُّلِ الغَرْب في الشَّرْق". هي فضيحةٌ أخرى لِلغرْب والصهيونيّة اللذين يبنيان خطابهما السياسيّ المُوحَّد كضحايا للنازيّة رافعين شعارات الحرية والديمقراطية وتجريم مُعاداة السّاميّة ، لكنّهما يتحالفان مع النازية ضدّ الشعب الروسي الذي له الفضل في تخليصِ البشريّة مِن الكابوس النازي مُقدّماً مِن أجلِ ذلك عشرات الملايين مِن الشهداء.