هل كان بالإمكان التخلص من حكم حركة النهضة، وازاحتها من الحكومة لو لا اتحاد جميع القوى السياسية التي تؤمن بمدنية الدولة وتعتقد في جوهرها الديمقراطي؟ هل تنتظر تلك الأحزاب فاجعة أخرى حتى تحسم الأمر في أن اتحادها هو السبيل الأوحد من أجل تونس تكون على نفس الصورة التي تاق لتحقيقها الغاضبين أثناء الثورة؟ لقد خُضتُ قبل 14 جانفي تجربة العمل الحزبي (المعارض لنظام بن علي آنذاك)، ومن بين الاستنتاجات العديدة التؤ خلصتُ اليها حينها (وكانت من بين أسباب اتخاذ قرار ابتعادي عن الأحزاب) هو اصابة معظمها بوباء الزعاماتية التي نخر أسسها، والتي تقف خلف الخلافات المزعومة فيما بينها. فما يؤمكن التأكد بخصوصه أن ما يبرز من صراعات اليوم بين عدد من الوجوه السياسية البارزة، في ظاهرها تعبّر عن تباينات ايديولوجية (حتى داخل العائلة الفكرية الواحدة) أو هي ذات صبغة سياسية تتعلق بأولويات الأجندات المزمع اتباعها، ليست في حقيقة الأمر إلا انعكاس لمشاكل تمّ استيرادها من خلافات ذات جذور شخصية أو ذاتية حدثت منذ عشرات السنين بين مدارج الجامعة التونسية أو احتضنتها دفاتر التنظيمات السرية التي أينعت في عصور سابقة. أزعم القول أن ما يفرّق جزءا كبيرا من الطبقة السياسية الديمقراطية الآن، هي نزاعات انغمس فيها عدد من رموز تلك الطبقة في بدايات مشوار نشاطهم السياسي، وحمل وزرها، لاحقا، مريديهم وأتباعهم. هو شقاق حول بعض الجزئيات والتفاصيل حول رؤى مختلفة للنظريات الايديولوجية، وهي أيضا في أحيان أخرى عراك شخصي حول مسائل عقيمة وعديمة الأهمية. قد يبدو للوهلة الأولى أن في الأمر اختزال للفروقات بين الأحزاب السياسية الديمقراطية وقفز عن وجود تصورات متباينة في تحليل الوضع الحالي وفي البدائل المطروحة له. وطبعا لا يمكن نفي ذلك نفيا مطلقا. ولكن، يكفي قليلا التقرب الى الكواليس الخفية لتلك الأحزاب، ومعاشرة عدد من قياداتها لمدة طويلة من الزمن لنكتشف الجزء المخفي من التباينات في تلك الصراعات. لننتبه جميعا الى أن تونس هذه السنة تمرّ بمرحلة مصيرية من شأنها أن تحدد معالم الخارطة السياسية للبلاد على المدى القصير والمتوسط. فبضع أشهر تفصلنا عن الانتخابات، ورغم ذلك نرى أن نفس مكونات المشهد الحزبي الديمقراطي غارقة للنخاع في عملية وكأنها ممنهجة من أجل تشتيت الجهود التوحيدية. فهنا نجد أحزاب تنظم لقاءات مع الناس بشكل منفصل لا يواكبها سوى بضع عشرات من الأشخاص، وهناك أحزاب بصدد اختلاق المشاكل فيما بينها، وفي مكان آخر لا تتورع حركات أخرى عن توجيه الاتهامات جزافا نحو ما يفترض أن يكونوا حلفاء لهم. عندما أُلقي بحركة النهضة خارج الحكومة، بسبب فشلها في تسيير البلاد، ما كان ليحصل ذاك الأمر لولا تكاتف جميع القوى الديمقراطية دون استثناء. ومثل هذه الخطوة نادرة الحدوث في تاريخنا السياسي هي مؤشر ايجابي ينبؤ في صورة اعادة انجازه بامكانية التخلص النهائي من ذلك الحزب، بشكل ديمقراطي لا لبس فيه. وأمام الصعوبات التي ذُكرت آنفا والتي تحول دون بلوغ تلك الغاية، فإن الدور الأساس هو موكل على عاتق الجماهير القاعدية والكوادر الوسطى في الأحزاب الديمقراطية، وهم الذين لا ناقة لهم ولا جمل في تلك الخلافات، من أجل تشجيع كل فرص التلاقي والاتحاد فيما تبقى من محطات سياسية قادمة.