استرجاع مركب شبابي بعد اقتحامه والتحوّز عليه    استعدادات لانجاح الموسم الصيفي    نبيل عمّار يُلقي كلمة رئيس الجمهورية في مؤتمر القمة لمنظمة التعاون الإسلامي    دعوة إلى إصدار القانون المنظّم للعلاقة بين الغرفتين    مشاركة تونسية في معرض الجزائر    برنامج تعاون مع "الفاو"    مع الشروق .. خدعة صفقة تحرير الرهائن    العدوان على غزّة في عيون الصحف العربية والدولية.. حماس في موقف قوة و كل اسرائيل رهينة لديها    الاعتداء على عضو مجلس محلي    اليوم الدخول مجاني الى المتاحف    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    بنزرت الجنوبية.. وفاة إمرأة وإصابة 3 آخرين في حادث مرور    تدشين أول مخبر تحاليل للأغذية و المنتجات الفلاحية بالشمال الغربي    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    شيرين تنهار بالبكاء في حفل ضخم    تونس العاصمة : الإحتفاظ بعنصر إجرامي وحجز آلات إلكترونية محل سرقة    وفاة 14 شخصا جرّاء فيضانات في أندونيسيا    أخصائيون نفسيّون يُحذّرون من أفكار مدرّبي التنمية البشرية    بداية من الثلاثاء المقبل: تقلبات جوية وانخفاض في درجات الحرارة    غدا الأحد.. الدخول إلى كل المتاحف والمعالم الأثرية مجانا    4 ماي اليوم العالمي لرجال الإطفاء.    عاجل/ أحدهم ينتحل صفة أمني: الاحتفاظ ب4 من أخطر العناصر الاجرامية    روسيا تُدرج الرئيس الأوكراني على لائحة المطلوبين لديها    صفاقس :ندوة عنوانها "اسرائيل في قفص الاتهام امام القضاء الدولي    عروضه العالمية تلقي نجاحا كبيرا: فيلم "Back to Black في قاعات السينما التونسية    إنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم: لجنة الاستئناف تسقط قائمتي التلمساني وبن تقية    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    عاجل/ تلميذة تعتدي على أستاذها بشفرة حلاقة    كأس الكاف: تونسي ضمن طاقم تحكيم مواجهة نهضة بركان المغربي والزمالك المصري    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    القصرين: حجز بضاعة محلّ سرقة من داخل مؤسسة صناعية    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    القبض على امرأة محكومة بالسجن 295 عاما!!    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    التوقعات الجوية لليوم    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    تصنيف يويفا.. ريال مدريد ثالثا وبرشلونة خارج ال 10 الأوائل    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تطاوين، مشروع غاز الجنوب..الأفق المسدود
نشر في حقائق أون لاين يوم 04 - 05 - 2014

المقترح في هذه الورقة هو "طرح" لمسألة أرقتني طويلا وهي "مشروع غاز الجنوب بتطاوين". طرح مُقدم في شكل فقرات قد تنقصها المنهجية ومع ذلك فهي لا تفتقر إلى الموضوعية لأسلوبها المعتمد على "الانتماء" الفطري لدى كل كائن حي عندما يشعر بالحيف والظلم... فقرات في شكل ومضات تمس بعضا من جوانب الحياة والفكر، وتقف كشواهد ثابتة على مسار التاريخ... فقرات صادرة عن "فرد غباري-Un individu de poussière" كما قال الراحل "بورقيبة" رحمه الله... أحب الرجل وأحترمه، لكن ما تركه من تمييز ضمني خفي يبقى محفورا في ذاكرة بعض المناطق من الوطن، الشيء الذي دفعني إلى النظر والتدقيق في المسيرة بمناسبة "مشروع الغاز" هذا الشائك...
لستُ أدري وفي أية مناسبة، من القائل: "تطاوين أبكتني يوما، أما أنا فسأبكيها دهرا"؟ مضمون المقولة "عقاب جماعي" بقي علامة فارقة على جبين الأيام وفي ذاكرة من يعيشون الآن العقاب الأبدي، وأترك بقية الجواب للعارفين بالتاريخ...
ليس ثمةَ أصدق من التاريخ حديثا إذا ما صدر عن لسان صدق، ولا أحن من الجغرافيا صدرا بما ضمت ولو كان صحراء قاحلة حين احتضان أهلها... تحتضن الصحراء أهلها كالأم تماما، وتُعطيهم قوتا من خالص مُخ عظمها إذا ما عز القوت، ومُخ عظم الصحراء في هذه الحال هو ما استبطنته من "بترول وغاز" للأيام الصعبة...
1. الهجرة والاقتصاد الوطني:
في بداية الستينيات من القرن الماضي، كنّا نودّع أهلنا من الشباب والكهول حين السفر في رحلة العذاب إلى الغرب المخيف... أجيال تعاقبت على طريق الهجرة، وبسواعدها السُّمر كَنسَت بعض الشّيء من رمال الصّحراء، وأقامت من العمران والحركية ما أقامت لتلتحقَ ولو بنسبة جدّ ضئيلة بمثيلاتها من المناطق الخضراء من هذا الوطن الكريم تُربةَ...
عرفت جهةُ تطاوين تدفّقات من التّشرّد في اتجاه البلدان الملقّبة بالمتقدّمة في أوروبا. مسألة الهجرة في الوقت الحاضر يتمّ ضبطها في جميع جداول الأعمال لما لها من مردود على الاقتصاد الوطني عامة والمحلي بالخصوص، موجات المهاجرين التي اكتسحت اوروبا في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي، بعد معركة التحرير والحصول على الاستقلال شكلا، كان لها وإلى حد الآن الأثر والمردود الفعّال في مشاريع التنمية، لا فقط في بلدان المهجر وإنما حتى في بلد المنشأ. فمن بين المهاجرين ثمة الكثير من المبادرات الشخصية التي خلقت أنشطة وخدمات ومبادلات في أماكن عديدة وجعلت من أصحابها قادة ومديرين يحتلون أدوارا هامة في المجال التنموي للبلاد...عمّالنا بالخارج بصمتهم في الاقتصاد التونسي واضحة كل الوضوح، وإذا ما أردنا أن نركز النظر على الجهات وجدنا "تطاوين" تحظى بالأولوية لما لأهلها من الانضباط والمسؤولية. المهاجرون من مدينتي تطاوين وغمراسن بالذات بعضهم من منظمي الأعمال: أنشطتهم وشركاتهم موجودة في مواقع عدة بفرنسا وتونس والبلدان الوسيطة، وتعتمد أساسا على الأجهزة التجارية أو الانتاجية.... مثل هذه الأنشطة عطاؤها ب"العملة الصّعبة" وافر وغزير وما يقوم به المهاجرون من "تحويلات" للعملة يمثل وزنا كبيرا في الاقتصاد وتحدّيا أكبر خاصة بالنسبة للوطن ومناطق الرحيل، لما لذلك من أهمية متميزة في مجال تطوير التعاون مع سائر بلدان المهجر.
1. الرّاهن وأسباب مُعضلة التشغيل بتطاوين:
لستُ من المختصين في ميدان الإحصاء حتى أركنَ إلى جداولَ وأرقام ومُقارنات تَعتمدُ التّحليل وتُفضي إلى استخلاصات لما كان عليه وضع التشغيل سابقا وكيف كان يُطبّقُ ويُمارسُ في دهاليز السّر ليخرجَ إلى العَلَن على وجوه أهله في ربوع تونس خيرا تارة وفي أماكنَ بعينها، وسَوَادًا طورا في أخرى ...وما سيكون عليه المستقبل انطلاقا من الرّاهن ليشملَ الخيرُ كلّ الوجوه، اعتمادا على تخطيط مُحكم الدّقة، بعيدا عن كل العواطف والأهواء، مُحقّقا ما يطمح إليه هذا الشعب من عدالة وكرامة عيش وحرية، بعد ما ثار ثورته وما زال... لستُ من المختصين، لكنّني سأعتمدُ بعض الإحصائيات المُقدّمة من المعهد الوطني للإحصاء، كاشفا فيها بعض نسب البطالة لحاملي الشهائد العليا في ولاية "تطاوين"، مقارنة بولايات أخرى بالجمهورية التونسية. إحصائيات برزت لتمثل التّفاوت الاجتماعي والجهوي ومعضلة البطالة في صفوف خرجي التعليم العالي، حيث تظهر الولاية في ذيل كل ّالمعطيات...
لو اعتمدنا المُعطى الإحصائي لسنة 2010 لوجدنا إقليم الجنوب الشرقي الجامع لولايات (قابس، مدنين، تطاوين) يحظى بأعلى نسبة للبطالة في صفوف حاملي الشهائد العليا (40%) وقد تنخفض أو ترتفع هذه النسبة بين ولاية وأخرى من بين الثلاث، وهو المُعطى الذي لا يتوفّر في هذه المقاربة التحليلية، مع العلم أنه صدرت إحصائية حديثة لسنة 2011 منحت
تطاوين أول مرتبة في البطالة، حيث بلغت أكثر من (51%)، الحدث الذي أثار حفيظة أهالي تطاوين وأشعرهم بفداحة الكارثة وسواد المصير... هذه النسبة الفاضحة جاءت نكبة لأصحاب القرار، سرعان ما سُحبت من المواقع الإلكترونية وما عاد لها أثر حتى على موقع المعهد الوطني للإحصاء، هذا الذي من أهدافه الكبرى التّخطيط لمستقبل الشعب وما سيكون عليه حاله لثلاثين أو خمسين سنة قادمة...
لنتأكّد من فداحة النّتائج المخيّبة لكل الآمال، يمكننا الوقوف على جدول آخر يبرز فيه البون الشاسع بين الجهات، وهو جدول توزيع نتائج التوجيه الجامعي على مختلف الاختصاصات في كامل ولايات الجمهورية حسب الترتيب التفاضلي وبحسب أهمّيّة الاختصاص وذلك بالنسبة لنفس السنة 2010. ما وجب أن نتعجّب أو نشعر بضيق إن فاجأتكم تطاوين آخر المُسجّلات في ذيل الجدول، مُحرزة في المقام الأول على رصيد هائل من الأطباء (3)، المهندسين (26)، الحقوق والاقتصاد والتصرف (4)، اختصاصات أخرى ثانوية (1378) من بين (1411) ناجحا في الباكالوريا.
تحليل المعلومة صعبٌ لكن سنُحاول بأسلوب التبسيط لنُضيف مقارنة بجارتنا (مدنين) التي لا تبعد عنها سوى خمسين كيلومترا، المُرتّبة قبلها مُباشرة والمتحصّلة على (3842) ناجحا، ونعتبرُ أنّ جملة النّاجحين بتطاوين يُمثل (ثُلث) جملة الناجحين بمدنين التي لها من الأطباء (62)، المهندسين (234)، الحقوق والاقتصاد والتصرف (74)، اختصاصات أخرى (3472).
السؤال المطروح بداهة: لما لا يكون ناتج التوجيه في الاختصاصات الأربعة تباعا بتطاوين ثُلث ناتج مدنين: (21) طبيبا، (78) مُهندسا، (25) حقوقيا ومُقتصدا مُتصرّفا، (1157) اختصاصات أخرى؟
جوابا على هذا السؤال وجب أن نقف عند عدّة أسباب، منها على وجه الذكر لا الحصر:
1. المُعطيات الدّالة آنفا هي نتاج الفترة الثالثة لمنظومة إصلاح النظام التربوي التي انطلقت سنة 1991 إلى اليوم، بعد فترة أولى امتدت من (1956 إلى 1975 ) وجادت بما جادت من نتائج مرّت بنا إلى فترة ثانية من (1976 إلى1991)، فترة عرفت استقرارا نسبيا في نتائجها المُشجّعة بفضل أهل الاختصاص في الكليات ومدارس الترشيح والمعاهد والمدارس الابتدائية...
الفترة الثالثة لسنة 1991 اعتمدت وإلى يومنا هذا نظرية بيداغوجيا الكفايات الأساسية القائمة على بيداغوجيا الأهداف، والمُتغنّية بأنشودة "الرّسوب استثناء"، جابّة ما قبلها ليُصبح "نظاما قديما" انتهى عطاؤه، لو أقمنا الحساب، بآخر باكالوريا نهاية القرن العشرين سنة 2OO1 تقريبا.
1. توافد جحافل المربين من المنتدبين الجدد مُعلمين وأساتذة على ولاية تطاوين، خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي، كان مُلفتا للنّظر. الجميع قادم من مدن الشريط الساحلي على طول تونس، لممارسة المهنة دون إعداد أو تكوين مُسبق لتمرير مضمون منظومة الإصلاح هذه الوافدة الجديدة، مع احترامنا للشهائد والمستوى العلمي والمعرفي لكل وافد من المربين... مداشر وقرى ومدن تطاوين مثّلت حقل تجربة للإصلاح الجديد وبامتياز... ناتج هذه التجربة ترجمته وما تزال جداول إحصائية بدء من 2002 إلى اليوم، بعد آخر باكالوريا في النظام القديم، وما تمّ تقديمه كمثال وبرهنة لسنة 2010 كاف بأن يُقيم الحجة على رداءة النّتاج في الاختصاصات المُميّزة.
2. تحوّلُ تطاوين إلى مركز بيداغوجي وطني، تُمَارس فيه تجربة التدريس على مدى أكثر من عشرية ولا يزال، ما استقرّت على حال ولا اكتسبت لها عادات وتقاليد ومهارات اختصاص في سائر حلقات الترابط بين المراحل في المؤسسات التربوية، لتكون لها قدم راسخة كسائر المدن الكبرى بالجمهورية. الأكفّاء من مُعلّميها وأساتذتها لهم لا شكّ بصمتهم ولكنّهم قلّة وسط الكثرة الغير المُستقرة. بقيت تطاوين نقطة عبور غير اقتصادية، أفواج تأتي وأخرى تغادر تاركة وراءها ذكرى محاولة، حاملة معها ثمار تجربة تُوكل بأماكن غير الأماكن. مرتبتها العامة في نتائج الباكالوريا خلال السّنوات الثّلاثة الأخيرة من الثورة ما تجاوزت 23 من بين 24 ولاية
3. الهجرة وما يمثّله غياب الأب داخل الأسرة من انعكاسات وردود أفعال قد تكون سيئة خاصة على المستوى العاطفي ودوره في تكوين الشخصية وتوازنها لدى الأطفال حتّى اجتياز سنّ المُراهقة. قد تتكامل أفراد الأسرة، لكنّ انصراف الأب إلى الاهتمام الكلّي بالعمل والجري وراء الخبزة، يجعله في غفلة عن أبنائه مع ضعف قدرته على التوفير المادّي الملائم لتمكينهم من القيام بدروس الدّعم والمتابعة إذا ما كان من صنف الطبقة الضّعيفة، وأهلها في هذه الحال كُثر. ما يعانيه التلميذ من وثائق تعليمية نادت بها منظومة الإصلاح يثقل الكاهل حملا لدى طالب المعرفة، ونقدا لدى الوليّ "التّاعب" أصلا
4. ارتفاع نسق الحياة وغلاء المعيشة من الأسباب المُساهمة مباشرة في عزوف الشباب عن الإقبال على الأعمال الفلاحية بما اشتملت عليه من تفليح للأرض وتربية للماشية لما تطلبه من كلفة في الإنفاق في وسط ظروف مناخية صحراوية جافة ومردود هزيل في المُقابل لا يُغطّي حتّى المصاريف.
5. مشروع غاز الجنوب والأفق المسدود:
ثلاث سنوت خلت ومرّت على حَدَث سمّيناه "الثورة"، وهي مازالت تحدثُ، عشتُ فيها مُتأمّلا لأستخلص في النّهاية أنّه شتّان بين من يرمز إلى الواقع والحقيقة كالطفل الصّغير الذي يريدُ أن يُحاكيَ الحياة، وبين من يعيشُ الواقع والحقيقة عين العيش... الشعور بالمأساة وتخيّلُ النّفس مكان الآخر لا يكفي، إنّما يكفي أن تكون الآخر نفسه، وهذا من الصّعب المستحيل... من هنا تنطلق الثّورات... من قلب المآسي على المآسي... ويُولَدُ الواقع الجديد الآخر، المُغيّر لوجه الحياة كما يُريدها هذا الآخر...
الانطلاق من الذّات لكونها هي "الآخر" الذي لا يمكن أن يشعر به أحد أو يُمثّله هو سلاح الثّورة في زمننا الحاضر. الحقبة النّوفمبرية وما خلّفته من الشّباب العاطل عن العمل وما يحمله من مفاهيم ثوريّة، ودراية استشرافية بحاله ومآله بحكم انفتاحه على العالم عن طريق بوّابات الاتصال المُتعدّدة المشارب، ما عادت تُقنعه خرافات منابر المسؤولين وأصحاب القرار في اللّعبة السّياسيّة والاقتصاديّة خاصّة، لما لها من سوء تقدير عن جهل، أو رغبة في منفعة،أو انتماء لزمرة غابيّة مُتوحّشة.
1. عُلويّة الحقّ والقانون:
مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تشهدها تونس هذه الأيّام، وهي تتخمّرُ وتتفاعل، تُوكّدُ على إعادة الثّقة للمواطن في جدوى المُمارسات السّياسيّة والقضائيّة باسم القانون. وانطلاقا من هذا المفهوم، أصبح من الضروري إثباتُ عودة هذه الثّقة باستدعاء أنماط مؤسّسيّة تقومُ على تقاليدَ وشبكات مفاهميّة تصوغ مؤسّسات الدولة في صيغة ديمقراطيّة جديدة، الهدف منها الارتقاء بالمواطن إلى مستوى الفاعليّة والمُشاركة في القرار، ليتحوّل من مُجرّد شاهد جامد مظلوم إلى فاعل سياسيّ مُمتلك لأدوات مشروعة للنّقد والطّعن ومُمارسة حقّه الرّقابي على أجهزة الدّولة. من هنا فقط يبدأُ تحصين المجتمع وحمايته من التّجاوزات والانحرافات التي قد تودّي إلى مزالق لا تُحمدُ عقباها...
1. بسط الإشكال:
تنعمُ ولاية تطاوين على امتداد صحرائها بالعديد من الحقول النّفطيّة المُكتشفة قديما وحديثا، بفضل مجهودات شركات تنقيب أجنبيّة ذات باع وسيط في العالم، بتفويض وإشراف المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية (ETAP). أقدمُ بئر تمَّ اكتشافه كان بحقل البرمة، بدأ نشاطه سنة 1965 وعرف أوج عطائه سنة 1970 بإنتاجه 4 ملايين برميل سنويّا إلى أن استقرّ اليوم في حدود 600 ألف برميل سنويّا. كلّ هذا الفيض والعطاء مَرَّ من تحت الأرض، من تحت أقدام أهالي تطاوين في وعي أو في غير وعي منهم إلى أماكن أخرى داخل الوطن. ما شاركوا لا حفرا ولا نقلا ولا هندسة، وإن وقع ذلك فقطرة من سيل. أخيرا تمّ اكتشاف آبار أخرى مُهمّة ذات إمداد غزير للغاز في حقول: (نوّارة، وادي زار، حمّودة، الشروق)، حقول تقع بين رمادة وبرج الخضراء. كلّها وقع غلقها في انتظار إنجاز مشرع الغاز هذا المُتنازَع عليه. المشروع واعد، حيث تُقدّر كمّياتُ إنتاجه المبدئي ب 4 مليون متر مُكعّب في اليوم، وتَعدُ آفاقه بالوصول إلى 10 مليون متر مُكعّب في اليوم، حسب أحد الخبراء الدّوليين في الطّاقة والمناجم.
لإنجاز هذا المشروع، تقدّمت وزارة الصناعة والمؤسسة التونسيّة للأنشطة البتروليّة بسيناريو أوّل حدّدتا فيه تصورهما وهندستهما وما تحويه من مراحل: وحدة استقبال وتخزين الغاز بحقل حمّودة، أنبوب قطره 28 بوصة وطوله 320 كلم في اتجاه قابس، تركيز محطة مُعالجة الغاز الخام ووحدات التخزين بقابس مع ما يقتظيه المشروع من خاصيّات تقنية وتكلفة قُدّرت ب 1350 مليون دينار. في المُقابل، أعدّت جمعية دعم التّنمية بولاية تطاوين تصوّرا لإنجاز هذا المشروع بجهتها، بإعانة خبراء من أبناء تطاوين في ميدان الطاقة والمناجم، حيث أكّدوا أنّ إنجاز المشروع من النّاحية التّقنيّة مُمكن تماما وذلك بتخطيط رسم بيانيّ لكلّ مراحل الإنجاز وفروع الخاصيات، كما ضبطوا له جميع مراحل الإنتاج بتبويبها وتوزيعها نحو كلّ الاتجاهات الممكنة للاستغلال الوطني والتصدير، قدّروا كلفته التي جاءت كما قدّرتها أو أقلّ بقليل تصورات وزارة الصناعة والمؤسسة البترولية التونسية فكانت الخلاصة الجملية في صيغة أولى: مركز التجميع بحقل حمودة- تطاوين- قابس حوالي 975 مليون دينار، أمّا في صيغة ثانية: مركز التّجميع بحمودة-تطاوين-قابس مع تصدير "البروبان" عبر ميناء جرجيس حوالي 950 مليون دينار دون اعتبار تكاليف تهيئة الميناء. أخيرا، جاء في مُعطيات جديدة أنّ محطة تجميع الغاز ستكون بحقل "نوّارة" الرّاجع للشركة النمساوية (OMV) والمُتضمّن لتسعة آبار غاز، انسحبت الشركة الإيطاليّة الموجودة بحقل "وادي زار" القريب من حقل حمّودة من المشروع مُؤقتا، لتنخفض بهذا التّغيير الطارئ كمّية التّجميع من 4 مليون متر مُكعّب إلى 2,7 مليون متر مكعّب فقط المُنتجة بحقل "نوّارة" أين ستُقام محطة التجميع بإضافة 50 كلم بُعدا، لتكون مسافة النقل في اتجاه قابس للمُعالجة 370 كلم وفي اتجاه تطاوين 220 كلم، وهو ما سيُرفّع في نفقات التّكلفة في الاتّجاهين.
1. آفاق مخطط جمعيّة دعم التّنمية بتطاوين:
رجل الاقتصاد والاستثمار له قولة مشهورة: "أعطني بَنكًا، أعطيك أفكارا". ربّما على هذا الأساس، خططت لجنة جمعية دعم التّنمية بتطاوين مشروعها المُستقبلي مُتصوّرة أنّ لديها 4 ملايين متر مُكعّب من الغاز، فتواردت الأفكار تباعا، مُعدّدة الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية على التّنمية كالآتي:
* جلب المستثمرين لتثمين الخامات الأولية كالجبس والرخام والحجارة والطين والإسمنت والبلور والآجر والجليز.
* إنشاء قطب صناعي بالجهة يختصّ في المواد الإنشائية.
* ضمان تنوع مصادر التّموين بالطّاقة لتغطية الاستهلاك الوطني بأقلّ تكلفة وفي صورة حصول أيّ طارئ.
* دفع التّكامل الاقتصادي مع الشقيقة ليبيا عبر تنشيط الاستثمار المشترك بالمناطق الحدودية الحالية.
* تشغيل الموارد البشرية بالجهة لتنميّتها واستقرارها اجتماعيّا والحدّ من هجرتها وذلك ببلوغ طاقة تشغيليّة جمليّة خلال العشريّة القادمة من 5000 إلى 7000 موطن شغل.
ختمت اللجنة تفاصيل مخططها بخلاصة تُذكّر فيها الحكومة بتحقيق أحد أهمّ أهداف الثورة: "العدل في توزيع ثمار التّنمية"، وتُذكرها بأنّ تطاوين حُرمت سابقا من أنبوب الغاز القادم من البرمة، ومشروع اليوم لا يُمثّل سوى جزء بسيطا من الحقوق التي كان يُفترض أن تُقدّمها الدولة لها منذ أكثر من 50 سنة.
1. مسار الأحداث:
تعدّدت اللّقاءات بين مُمثّلي طرفي النّزاع على المشروع في العاصمة تونس، وفي كلّ مرّة يرجع الوفد المُمثل لتطاوين بحلّ مُشوّه شكلا ومضمونا، فاقدا لكلّ وضوح، مُلغّما بالضّبابيّات... لا أحد من الوزراء أو الخبراء صرّح بالعوائق التقنيّة أو الماديّة التي يمكن أن تحول دون إنجاز المشروع، وهو ما يعني أنّ إقامته مُمكنة على الإطلاق لكن في جزء ضئيل منه. حين تبحثُ عن الأسباب الموضوعيّة التي يمكن أن تحرم تطاوين من التّمتّع بالمشروع كاملا مُكمّلا، لا يمكن أن تقف على منطق مقبول، ومن هنا ينفتح باب الفرضيّات:
* هل يكون المناخ الصحراوي الجاف بما ضمّ من مُكوّنات سببا غير مناسب لإقامة مثل هذا المشروع العملاق كما يبدو من التّكالب عليه والتّمسّك به؟
* هل هو صراع مصالح بين عمالقة الثّراء والاقتصاد وأصحاب الجاه والنّفوذ في كلّ المستويات؟
* هل "وطنيّة المشروع" لا تقتضي إقامته إلا في مناطق ساحليّة بعينها؟
1. القرار الأخير وتحويل الوجهة:
جاء في آخر جلسة لمساء يوم الخميس 24 أفريل 2014 في صيغته النّهائية القرار الأخير لهذا المشروع، إثر جلسة عمل مُخصّصة للغرض بقصر الحكومة بين الوزير لدى رئيس الحكومة السيد رضا الورفلي ومن معه من أعضاء حكومته، والسيد والي تطاوين إلى جانب أعضاء عن المجلس التّأسيسي ومُمثّلين عن المنظمات الوطنية وبعض الأحزاب بالجهة، جاء القرار بإحداث أنبوب مُنطلق من تطاوين، قطره 12 بوصة وطوله 85 كلم، وربطه على مستوى نقطة "كامور" بالأنبوب الرّئيسي النّاقل لغاز محطة "نوّارة" في اتجاه مكان آخر يعلمه الله. وحدة مُعالجة الغاز هذه التي سوف ينطلق منها الأنبوب جاء إقرار تركيزها بمنطقة "البئر لحمر" في مُستوى الحدود بالضبط بين ولايتي تطاوين ومدنين على بُعد 12 كلم من مركز ولاية هذه الأخيرة، وبقيت تطاوين خلف المرتفعات والهضاب. أمّا طاقة الإنتاج فهي مُقدّرة ب 600 ألف متر مُكعّب في اليوم بعد أن كان الحُلم بالملايين، وجاء مع كلّ هذا حزمة وعود لا رأس لها ولا قدم إذا ما أردتَ أن تطلُبَ منها الوقوف على أرض الواقع.
* أين ذهب باقي غاز محطة "نوارة" 2,1 مليون متر مُكعّب؟
* لما وُضعت المحطة المزعومة على حدود ولايتين في حين وجب أن تكون بالقرب من مدينة تطاوين مُشعّة على كامل معتمديّاتها حفاظا على تساوي المسافات بينها؟
* قد تبلُغ موازين القوّة أوجها بين الأطراف، فلما لم تُقسم كامل كمّية غاز نوّارة على الطّرفين حفاظا على العدل إن وُجد هذا العدل وتَحصُل تطاوين على نصيبها المُساوي ل 1,350 مليون متر مُكعب؟
طرح هذه الأسئلة يُمثّلُ حلولا إذا ما عزّ التّوافق وخير الأمور أوسطها.
* الخلاصة:
كلّ الأطراف مدعوّة إلى الرّجوع وبسرعة للنّظر في هذا المشروع وبجدّيّة فاعلة، ما يقع من رفع وخفض لا يدلّ أبدا على الاهتمام بمصير مائة وخمسين ألف نسمة بولاية تطاوين، كما لا يدلّ إطلاقا على نمط التّفكير وسلوكيات السيّد مهدي جمعة رئيس حكومتنا ورُبّان سفينة نجاتنا هذه التي تتقاذفها الأمواج العاتية من كلّ جانب. أعلمُ تمام العلم أنّ "المستحيل ليس مهدي جمعة كما أنّ المستحيل ليس تونسيّا. خلاصتي هذه ليست مُمارسة للسّياسية لأنّني لا أفقهها، لا ولا للتّملّق لأنّ تُربتي ما أنتجت هذا، وكلّ أشجارها إن وُجدت تموتُ واقفة فيها، خلاصتي هي دعوة للحقّ، لا شيء غير الحقّ وكفى بالله شهيدا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.