قبل أكثر من سنة كتبَ الصحفيُ والباحثُ الصديقُ مختار الخلفاوي نصّاً مهمّا جدّا حول مُكافَحَة الإرهاب ومقتضياته أو ما سمّاه المُخ ب"قواعد الاشتباك" الحقيقية مع الإرهاب بدءا من اللغة والخطاب وصولا إلى ساحات المعارك وجَبهات القتال. مَدارُ هذا المقال الذي ظلّ محفورا بذاكرتي هو أنّه من العبثية بمكان أن نُحارب الإرهاب في الجبل ونُهادنَه في السهل .. أو قُلْ أنْ نُقاتل الإرهابيين في الأحراش والجبال وفي ذات الوقت نتعامى عن الرؤوس المحرّضة و"المنطق الشرعيّ" الذي أصّل لهؤلاء القتلة جريمتهم النكراء. البارحة حضَرني هذا المقالُ بقوّة .. وهو برأيي التلخيصُ الفصيحُ في لفظه، الشُجاعُ في موقفه، والاستباقيُّ في نظرته لأشواط مأساوية من هذه الحرب على الإرهاب التي فُرِضت على شعوبنا المنكوبَة أصلاً والخارجة من العصر والتاريخ جملة وفصْلاً. حَضرني المقال وأنا أقرأ غيرَ مُصدِّق وأشاهد نصفَ مُحدِّق ما تنشرُه الجاليةُ المهاجرةُ في فرنسا على صفحات المنتديات الاجتماعية وتسابقها المحموم على توقيع منافق je suis Charlie ..! هؤلاء بأنفسهم -أنا طبعا أعني المَعنيّين من الجاليَة الذين يعرفون أنفسَهم ولا أعمّم- هم الذين كانوا إلى زمن قريب يُوشّحون حساباتهم على الفايسبوك بشعار رابعة .. والذين يُفتّقون مَواهبَهم كلّ يوم في ابتداع القصص والأمثال والسِّيَر المبرّرة للإرهاب الواقع ببلدهم تونس وغيرها من بلدان الربيع المُلوَّث .. ولا يُفلحون في صنع أيّ شيء في حياتهم وإنتاج أيّ فكرة والتداول في أيّ نظرية عدا نظرية المؤامرة وفكرة "الإسلام في خطر" ! وَاهِمٌ، برأيي، مَن يتصوّر أن مُرتكبي مجزرة المجلّة الأسبوعية الساخرة شارلي إيبدو هم الأخَوَان سعيد وشريف كواشي وحميد مراد .. ما هؤلاء الثلاثة بأزيدَ من فاعلين مُباشرين عُهِدَ إليهم الإجراء .. فكانوا أعوانا تنفيذيين لا أكثر ! إنهم مجرّد نازلين "من جبل" باريس باصطلاح مختار الخلفاوي .. أمّا المُعششون "في السهل" .. أولئك الذين أعدّوا للجريمة ورتّبوا لها وكانوا حاضنتها الأولى وبيئتها المُثلى فهم أخطر و أخطر بكثير .. لأنهم أوّلا أكثر .. ولأنهم ثانيا وخاصّة داءٌ مَكين لا يلحظه الطبيبُ بكشوفات عادية فلا يُوصُف له أيُّ دواء ولا يستطيع إدراكه بأيّ علاج لا عاجل ولا آجل. أولئك هم القتَلَة الحقيقيون ! القَتَلَةُ : هم الذين من فرنسا يُصرّون على أنّ بلادهم تونس وجيرانها في المنطقة في حاجة إلى "فتح إسلامي" جديد يردّها عن "جاهليتها" ويقصم ظهر دولتها العلمانية الكافرة .. الذين يُروّجون لحدّ الساعة أنّ الشهيد شكري بلعيد لم يتمّ اغتيالُه وهو يُقيم الآن بناحية ما قد تكون الجزائر (!) وإذا كان فعلا قد تمّ اغتيالُه، فهو أمرٌ من تدبير الدولة العميقة وفي أسوإ الحالات من تدبير المخابرات الأجنبية وربّما حتى زوجته بسمة الخلفاوي .. هؤلاء هم بأنفسهم قَتلَةُ الصحافيين في اجتماع التحرير الدوري للمجلة ومن كان معهم .. القتَلَةُ : هم أولئك الذين يضعون لسنوات متواليات في حوانيتهم بجانب la caisse -كما يقولونها بفرنسيتهم المهلهلَة- صُندوقا لجمع التبرعات نُصرة للإسلام .. وما هي إلاّ عشرات آلاف الأوروات في عشرات آلاف الأوروات لجبهة النصرة وفروعها وبنات داعش في كل مكان .. وهم الذين يُنافحون عن واجب "الجهاد" في سورية ويُقدّمون كل ضروب الدعم والإسناد للجماعات الإرهابية في أرض الشام ومصر وليبيا والجزائروتونس .. وهم الذين يسلخون أجيالا عن أوطانها ويقلعونها من منابتِها وبيئاتها لتكون قابلَة للحلول في أيّ بيئة أخرى تُصَمَّمُ لهم خارج كل الهويّات والروابط التي تشدّ الإنسان إلى إنسانيته من الأمّة إلى الوطن إلى الشعب إلى الحزب إلى النقابة إلى الحيّ إلى العائلة .. القَتَلَةُ : هم الذين افتكّوا المساجد أو شاركوا في افتكاكها هنا أو هناك لا فرق ليُولّوا عليها مَن يُكفّر ويُحرّض ويُجيّش وينشر صباح مساء فكر الفُرقَة والحقد والكراهية والموت .. وهم الذين اصطنعوا جمعيات وتنظيمات وتنسيقيات ومبادرات تتزيّا ب"المدنية" و"المواطنية" و"الديمقراطية التشاركية" وهم في الحقيقة من ألدّ أعدائها وأشرس مناوئيها .. تحت هذا الغطاء المغشوش بُعثت المدارس القرآنية -والقرآن منها براء- وانتشرت رياض الجنّة وطيورها وعصافيرها -لكن ما أبعد الجنة عن هذه الظلماء- واستُبْدِلَ التعليم الوطنيّ العموميُ بآخر مُوازٍ باسم الزيتونة لكنه يتنكّر لكل ما ثارت عليه المشيخات المتعاقبة لجامع الزيتونة من الأساليب التعليمية البالية ومناويل التلقين والحفظ والاجترار والتسليم وما تاق إليه الجِلّة من شيوخها ورموزها من تعصير المناهج والأدوات والمحتويات بقيادة الشيخ العلاّمة الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل ! الذين يتمتعون بكلّ منافع الدولة العلمانية المادية والرمزية ومنها عدم التدخل بالأديان والحفاظ إزاءها على الحياد مع ضمان كامل الحرية لأتباعها لإقامة شعائرهم بفرنسا وفي مقدّمتهم بنو جلدتنا وأوطاننا المسلمون .. ومن تلك المنافع أيضا وطبعا الاستفادة كأيّ مواطن فرنسي من أكثر أنظمة الحماية الاجتماعية تطوّرا وتضامنا في العالَم من ضمان صحي وضمان الشيخوخة والبطالة ورعاية الأبناء إلى سنّ معيّنَة .. لكنّ هؤلاء المنتفعين الجاحدين لا يَجدون أيّ حَرَج في أنْ يَمنعوا عنّا بالسكين والكلاشينكوف ما مُنِحَ لهم باسم الحرية والمساواة وكرامة الإنسان فتراهم يُمارسون الحرب على طريقتهم ضدّ العلمانية في بلادهم باعتبارها "كفرا" ويُحرّضون على مَن يعتبرونهم أتباعها الكُفّار ! مُعلنين النفيرَ الشامل حتّى لا تَعود تونس كما كانت أرضا للكفر والفسوق والضلال ! هؤلاء هم القَتَلَةُ الرمزيون/الحقيقيون لمحمد علي الشرعبي هنا في قرية الغريفات من معتمدية الفحص .. وهم بأنفسهم قتَلَةُ الأسرة الصحفية لمجلة شارلي إيبدو هناك في شارع Nicolas-Appert .. هم القَتَلَة لا مِرْاء لأنهم طليعَة القتل وكتيبة التمكين .. إذن، لا تعتذروا لهم .. فالاعتذار هو القتلُ .. بل لعلّه أشدّ من القتل !