يُضرب المثل عند بعض العرب في مخالفة الوعد والعهد بعرقوب، و هو رجل من يثرب قيل إنه من العمالقة، كان يعد الناس و لا يفي، و قد جاءه يوما اخاه طالبا حاجةَ فقال له عرقوب إذا اطلعتْ هذه النخلة فلك حملها فلما أخرجت طلعها أتاه،فقالله : دعها حتى تصيرب لحاً . فلما أبلحت أتاه،فقالله : دعها حتى تصبح زهواً . فلما أزهر تأتاه فقالله : دعها حتى تصير رُطباً. فلما أرطبت أتاه ليجمع ثمرها،قالله : دعها حتى تصير "تمراً " فلما أتمرت،قام عرقوب بليل فجدّها قبل أن يبكر اليها أخوه فلما جاء الأخ في الصباح ليأخذ التمرلم يجد شيئاً، فصار عرقوب مثالا في إخلاف الوعد وتوصف وعود الكذب ب"مواعيد عرقوب". وفي ذلك قال كعب ابن زهير: صارت مواعيد عرقوب لها مثلا *** وما مواعيدها إلا الأباطيل فليس تنجز ميعادا إذا وعدت *** إلا كما يمسك الماءَ الغرابيلُ وإن مثلُ وعود الإئتلاف الرباعي الحاكم أو "الكوارتات" و برامجه الإنتخابية كمثل عرقوب هذا، فبعد مرور أكثر من تسعة اشهر عن الإنتخابات التشريعية و الوعود البراقة التي أطلقتها أحزاب الإئتلاف و خاصة حزبي النهضة والنداء في حملاتهما الإنتخابية، و أكثر من خمسة أشهر عن الإنتخابات الرئاسية التي أتت لنا "بالزعيم المنقذ" لم نرى أية اصلاحات ولا بوادرها تلوح في الأفق أمام التراجع الرهيب لنسب النمو الإقتصادي و تزايد عدد المعطّلين عن العمل، بالإضافة الى التخفيضات المتواصلة لميزانية التنمية و انعدام آثارها في أغلب المناطق الداخلية. و الأهم من ذلك العجز الواضح في معالجة الملفات الشائكة و أكثرها تعقيدا كملف شركة فسفاط قفصة و ملف الطاقة و اصلاح المنظومتين التربوية و الصحية، و كذلك ملف الدبلوماسية التونسية و تعثرها خاصة مع دول الجوار. لا يمكن لهذا الشعب الذي انتفض ضد القهر و الظلم والفقر أن يعود أدراجه الى الوراء و يستسلم للفاسدين و المفسدين و يمنحهم "صكا على بياض" لمواصلة استنزاف ثرواته وتجويعه و تفقيره،وطمأنته بالوعود الزائفة، و قد خاض مئات الشباب من المعطلين عن العمل في قابس و قفصة وغيرها من الجهات المهمشة نضالات مريرة هذه السنة لمحاولة افتكاك بعض من حقوقهم الدستورية. وخاض غيرهم من العمال و الكادحون اضرابات متعددة و تحركات اجتماعية كثيرة لنيل الكرامة و العدالة . كما انتفضت جهات كاملة من أجل شعارات الثورة وأهمها طبعا "شغل، حرية، كرامة". و بالرغم من ذلك لم نر من قبل هذا الإئتلاف الحكومي معالجة ناجعة لهذه المشاكل ولم يبادر بطرح حلول جدية و لو على المستوى البعيد، بل على العكس من ذلك فقد تورّط وزراؤه في معارك وهمية مع قطاعات واسعة من الشغالين و النقابيين مثلما هو الحال مع قطاع التربية و نقابتي التعليم الثانوي والأساسي. ربما استطاع "جماعة الفوت ايتيل" أو التصويت الناجع اقناع انفسهم بضرورة دعم حزب يدّعي أنه حداثي وديمقراطي للحفاظ على القيم المدنية و ثقافة التحرر التي عاشتها بلادنا لعقود، و ضمان الحريات العامة و الخاصة التي اعتبروا أنها كانت مهددة في عهد الترويكا بقيادة حركة النهضة، الا أنهم لم يحسبوا حسابا ليوم يتحالف فيه اليمين الديني والليبرالي الرأسمالي و تشخص فيه الأبصار من هول ما يرون من ممارسات تعيد في الأذهان ممارسات النظام الديكتاتوري، لينطلق بعد ذلك اليمينان في اقتسام مغانم السلطة و توزيع المناصب و دعم رأس المال الفاسد ضد مصلحة المواطن الذي ضل ينتظر وعودا تلقاها أيام الحملات الانتخابية بتحويل تونس الى جنة من الحريات و الحياة الكريمة. لن نتعرض الى تداعيات الأحداث الإرهابية التي ضربت البلاد فهي بلا شك تربك عمل أي حكومة ولو كانت في وضع مستقر، الا ان ذريعة مكافحة الإرهاب ليست مقنعة حتى تتخلى الحكومة ومن ورائها أحزاب الحكم عن وعودها و لا تقدم سوى الفشل وراء الفشل في تحقيق الحد الأدنى الذي تقتضيه المرحلة والإقدام على خطوات شجاعة لدعم الإقتصاد الوطني و تخليصه من الإرتهان الى بنوك النهب الدولية وقوى الامبريالية، فأغلب عواصم العالم الكبرى ضربها الارهاب الأعمى لكنها لم تهمل قضايا شعوبها الأساسية كما تتصرف النهضة و النداء أو تتخذ من ذلك حججا لتمرير قوانين زجرية والعودة الى أساليب القمع و التعذيب وانتهاك كرامة المواطن و انتهاك الدستور الذي لم يجفّ الحبر الذي كتب به بعد، لكن الفشل الذريع ان تواصل أحزاب الحكم المضي قدما في خيارات دمرت أحلام التونسيين لأكثر من عقدين من الزمن و تمعن في اتخاذ أسهل الحلول و ابسطها لمعالجة قضايا تتطلب وضع استراتيجيات واضحة و دقيقة و رؤية عميقة لواقع التغيرات الاقليمية و الدولية . و ما يثير المخاوف الجدية من كارثية ما قد تؤول اليه الأوضاع ليس فقط تراجع هذه الأحزاب عن وعودها الإنتخابية و نكرانها لبرامجها الإنتخابية، بل انتهاجها لسياسات تمهد لدكتاتورية جديدة و عهود أخرى من الإستبداد و ابرز دليل على ذلك محاولات تمرير قانون زجر الإعتداءات على القوات الأمنية و محاولة سحب قانون النفاذ الى المعلومة للتضييق على حرية الإعلام، بالاضافة الى سياسة دعم الطبقات الثرية على حساب المفقرين من هذا الشعب عكس كل الوعود التي اطلقتها هذه الأحزاب، كيف لا و يسعى رئيس الجمهوية الى تمرير قانون للمصالحة الإقتصادية لتمتيع ناهبي المال العام بعفو شامل و تحميل تلك الخسائر المالية على ظهر المواطن البسيط، فضلا عن مزيد دعم رجال الأعمال والطبقة الغنية ومضاعفة معاناة الطبقة الوسطى فكيف لحكومة بتعلة انقاذ الموسم السياحي أن تسعى الى دعم بعض أصحاب النزل من "الرأسماليين المتوحشين" و لا نرى اثرا في ميزانية الدولة لدعم قدرات "الغلابة و المساكين"،هذا دون أن ننسى المساعي الى خصخصة البنوك العمومية للتغطية على الفشل و جرائم سرقة المال العام والإستعجال في اقرار الزيادات والمنح للسادة النواب الذين رفضوا مشاريع قوانين أقل ما يقال عنها أنها ثورية تخدم مصالح الشباب المعطّل عن العمل الذي ثار ضد الفقر، إن مقترح الجبهة الشعبية الذي وصف بالشعبوي والمتمثل في اقرارمنحة للعاطلين بقيمة 200 دينارشهريا ضمن الفصل الثامن من مشروع الميزانية التكميلية يقع استخلاصها من ضريبة ب1% من رؤوس الأموال الذين تفوق أرصدتهم المالية المليار من المليمات لا يعقل أن يرفض اذا كانت أحزاب الحكم تسعى فعلا الى تحقيق الحد الأدنى من العدالة الجبائية،و غيرها من التشريعات والقرارات الحكومية و الوزارية المتناقضة جوهرا مع روح الدستور. ألم تنجح أحزاب الإئتلاف الحاكم سوى في بناء "سور الصيد" العظيم بين تونس وليبيا لمكافحة الارهاب والتهريب، وهي على علم ببارونات التهريب من الرأسماليين الذين تواصل دعمهم ونست وعودا خدعت بها ناخبيها؟ أليست هذه "وعود عرقوب" التي أشرنا إليها وأصبحت مثلا يتندر بها الشعراء. ولا يمكن أن نقول لأحزاب الإئتلاف الا كما قال الأشجعي : وَعَدْت وَكاَنَ الخُلْفُ مِنْك سَجِيَّةً ... مَوَاعِيدَ عُرْقُوبٍ أخَاهُ بِيَثربِ