لم يكن شكري بلعيد على أبواب السلطة ولم تكن له كتائب مسلّحة مرابطة في الجبال ولم يكن خلفه جيش جرّار من الأنصار والمريدين يهدّد به للزحف على قصر قرطاج، فقط كان للرجل حلم وإبتسامة وبعض الكلمات. فلماذا إمتدّت له يد الغدر ذات صباح مشؤوم من يوم السادس من شهر فيفري سنة 2013 ؟ شكري بلعيد كان من المناضلين القلائل الّذين تفطّنوا مبكّرا إلى أن مشروع الاسلام السياسي لم يكن هدفه الاستيلاء على الحكم وأجهزة الدولة فحسب بل كان مشروعا يهدف أساسا إلى الإستيلاء على العقول لإعادة تشكيل كيان التونسيين لذلك كان خطابه السياسي يقع في نقطة التقاطع بين الثائر والمثقّف، بين الحركة والفكرة. المقرّبون من شكري المثقّف وليس السياسي يعلمون أنّ مُفكّرين يساريين عربيين ساهما بشكل كبير في نحت الكيان الفكري والسياسي لشكري بلعيد وهما أوّلا المفكّر مهدي عامل (حسن حمدان) تلميذ الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير ومن أهمّ مؤلفاته "مقدٌمات نظريّة لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني" و "في عمليّة الفكر الخلدوني" و ثانيا المفكّر "حسين مروّة" الّذي نهل من الثقافة العربية الاسلاميّة في المدارس الدينيّة بالنجف ومن أهمّ مؤلفاته "النزعات الماديّة في الفلسفة العربية الإسلاميّة" و " من النجف دخل حياتي ماركس". شكري بلعيد لم يرث عن مهدي عامل وحسين مروّة الفكر فحسب بل ورث عنهما كذلك المصير. ثلاثتهم قتلوا بمسدّس محشوّ برصاص الجهل والحقد والظلام، فقط، مع الشهيدين مهدي عامل وحسين مروّة المسدّس خرج من تحت العمامة السوداء ومع الشهيد شكري بلعيد نفس المسدّس خرج هذه المرّة من تحت العمامة البيضاء، بعد ربع قرن إختلف لون العمامتين ولكنّ الجريمة واحدة. فهل كان يعلم شكري بلعيد أنّ مصيره سوف يكون مثل مصير حسين مروّة الّذي كتب فيه هوّ نفسه قصيدة رثاء سنة 1987 تحمل عنوان " سقطت في المدى طيرك المتعبة"؟ وهل كان يعلم أنّه سوف يُغدر به كما غُدر بمعلّمه مهدي عامل صاحب المقولة الشهيرة "لست مهزوما ما دمت تقاوم"؟ شكري بلعيد، على خطى مهدي عامل وحسين مروّة، كان يتمترس فكريّا خلف مشروع تنويري عربي إسلامي يقاوم منذ حوالي خمسة عشر قرنا ومن أهمّ رموزه قديما على سبيل الذكر لا الحصر ؛ أبو ذرّ الغفاري وأبو عثمان الجاحظ و معه كلّ رموز الفكر المعتزلي والحسين بن منصور الحلاج وأبو بكر الرازي أبو علم الطب الّذي كُفّر لأنّه إعتبر أن العقل هوّ الطريق الوحيد نحو الله والحسين بن الهيثم مؤسس علم البصريات الٌذي أجبر على البقاء في بيته حتّى وفاته لأنّه قال أنّ العالم قديم وليس حادثا والفيلسوف أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي مؤسس المدرسة الرواقيّة في الفلسفة الإسلامية والّذي ميّز بين الفهم العقلاني العميق للقرآن وبين الفهم النقلاني السطحي له، جلده الخليفة الاصولي المتوكّل أمام حشد من الدهماء فإعتزل الناس حتّى وفاته وأبو الوليد محمد بن احمد بن رشد الّذي أتّهم بالهرطقة والالحاد وسُجن والّذي لو لم تُترجم مؤلفاته للغة اللاتنيّة لما وصلتنا اليوم لأنّ كلّ كتبه الأصليّة الّتي كتبت باللغة العربيّة أُحرقت وأُتلفت. أمّا حديثا فمن أهمّ رموز الفكر العقلاني الّذين كان شكري بلعيد يستشهد بمؤلفاتهم دائما نجد عبد الرحمان الكواكبي وجمال الدين الافغاني وخير الدين التونسي وعلي عبد الرّازق وطه حسين وقاسم أمين والطاهر الحدّاد...وغيرهم. شكري بلعيد كان خطيبا ممتازا صقل مواهبه فوق "حجرة سقراط" بكليّة الحقوق عندما كان مناضلا في الحركة الطلابيّة اليساريّة وهذه الموهبة سوف تجلب له سخط أعدائه فكيف لهذا الحداثي اليساري أن يسكن " لغة الجنٌة"، فمعركته مع رموز الإسلام السياسي كانت معركة حول البيان لذلك قرّروا إخماد هذا الصوت وطمس كلماته إلى الأبد. شكري بلعيد أرادوا له الخروج من الباب الخلفي للتاريخ ولكنّ التاريخ أنصفه بأنّ فتح له بابه الرئيسي على مصراعيه ليعبر إلى الأسطورة بطلا، حلُم طوال حياته أن يقود الفقراء والمسحوقين في مساء ثوري عظيم فكرّمته الجماهير بأن حقّقت حلمه ومشت باكية وراء جثمانه الطاهر في جنازة عظماء.