كيف لتنظيمات سياسية لا تعيش ديمقراطية حقيقية داخلها أن تحمي مسار الانتقال إلى الديمقراطية ؟ تلك ربما أهم "مفارقة" تونسية في عصر ما بعد الثورة. "الصورة" تشمل الجميع ولا تستثنى منها الجبهة الشعبية التي عُلّقت عليها آمال كبيرة خابت جلها بعد ندوتها الثالثة التي عقدت مؤخرا. كان من المنتظر أن تبتدع الجبهة ولو تدريجيا طريقة ما لتطبيق الديمقراطية داخلها لتفضي إلى تحقيق تمثيلية تنظيمية بعيدة عن المحاصصة لن تقدر دونها على التحول إلى حزب سياسي قوي يجمع شتات كل من يؤمن بالحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية. أخفقت أحزاب الجبهة في ذلك وأبقتها مجرد إناء لإدارة تناقضات أحزابها ومستقليها في الحلقة المفرغة ذاتها وقد تنحدر ربما لمجرد سلم للوجاهة والرقي الاجتماعي. وأسباب ذلك متعددة لعل أبرزها تلك" الحقوق المكتسبة" في ممارسة السياسة في الصفوف الأمامية. فقراءة سريعة لما سبق الندوة و"للقسمة" التي ثبّتت التوازنات في تركيبة مجلسها المركزي الجديد تبرز علاوة على الفراغ الهائل الذي تركه الشهيد شكري بلعيد، عدم وجود رغبة أو قدرة على الحشد والتجميع وتعميم الديمقراطية. إن أي تجربة تصبح مهددة إذا لم تتطور. فالظروف التي حفت بانتخابات 2014 (سوء أداء الترويكا، الجرائم السياسية، الطلب الشعبي للبديل) تبقى مجرد عوامل عابرة لن تتكرر ولن تستفيد منها الجبهة مجددا. لذلك فإن تجربة الجبهة وبقدر ثرائها كانت بحاجة إلى تقييم جدي وموضوعي لكي تتطور. فهي حلت مباشرة بعد "حزب" سليم الرياحي في المرتبة الرابعة في نتائج تلك الانتخابات بعيدا جدا عن الحزبين الكبيرين (نداء تونس: 1 مليون و275 ألفا و88 صوتا وحزب حركة النهضة 947 ألفا و58 صوتا). على أن تلك المرتبة المتقدمة لا تعكس حقيقة ضعف حصيلتها (124 ألفا و39 صوت من بين أكثر من 3 ملايين ونصف مشارك). وتمكنت بفضل نظام انتخابي يعتمد التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا من الحصول على 6.91 بالمائة من مقاعد مجلس نواب الشعب (15 مقعدا من 217) بنسبة لا تتجاوز 3.47 بالمائة من عدد الأصوات المصرح بها. مع أنها نسبة لم تكن لتخولها لنيل أكثر من 7 أو 8 مقاعد على أقصى تقدير قياسا بعدد مقاعد المجلس. فمجرد تعديل بسيط للنظام الانتخابي المعتمد يأخذ بأكبر المتوسطات عوضا أكبر البقايا مثلا كان ليقصي الجبهة من المجلس أصلا. وحتى إن اعتبرنا أن خزانها الانتخابي يحوي جميع من صوتوا لمرشحها حمة الهمامي في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية وعددهم 255 ألفا و529 ناخبا (7.82 بالمائة من الأصوات المصرح بها). فإنها نسبة شديدة الضعف بالمقارنة مع عدد الأصوات التي حصدها الباجي قايد السبسي (1 مليون و289 ألفا و384) أو محمد المنصف المرزوقي (1 مليون و92 ألفا و418 صوتا) في الدور الأول. بقراءة مبسطة للخارطة الانتخابية يمكننا القول بأنه من المرجح أن تحافظ الأحزاب اليمينية (النداء بشقيه وحزب حركة النهضة) في الانتخابات المقبلة على نفس الحجم الانتخابي بتقريبا 900 ألف إلى مليون ناخب لكل منها. ومن مجموع 3 ملايين وخمسمائة ألف ناخب لن يبقى سوى مليون ونصف ناخب مشتتين بين مختلف أحزاب اليمين واليسار والقائمات المستقلة. وهذه الأصوات المشتتة لن تقدر الجبهة على الاستفادة منها طالما لم تفعل شيئا لتغيير استراتيجياتها وخطابها ولم تعزز قياداتها. وطالما بقي الإنطباع بأنها مواصلة في إهمالها لطبقة متوسطة ضخمة لديها مشاغل ومشاكل أخرى لم تتوجه لها ولم تحاول استمالتها. وتتصرف حصريا "كنقابة" للطبقات الضعيفة والمهمشة من المجتمع، رغم أنها فئات لا تشارك عادة في الانتخابات ولا وزن معتبر لها إن شاركت. يجب على الجبهة أن تتتوقف اليوم عند ذلك العدد المهول والمهمل من السياسيين ونشطاء المجتمع المدني والنقابيين والمفكرين والمثقفين والفنانين والاعلاميين والموسيقيين والشعراء والمسؤولين في الدولة والإدارة والذين يعرّفون بحسب انتمائهم "السابق" لأبرز مكوناتها حزب العمال أو الوطنيين الديمقراطيين أو بقربهم منهما. ربما يصبح من الضروري مستقبلا لأولائك "السابقون" وهم مناصرون طبيعيون للجبهة وفي ظل اخفاقها في تجميعهم ورفضها التوسع والانفتاح عليهم، أن يباشروا بخلق إطار ديمقراطي فعلا يجمعهم لا يحل محلها ولكن يكون الهدف منه اسنادها ومساعدتها. فقد يساهم تشكيل "حزام الأمان" ذاك حولها في ارغامها على التطور والإقتناع بضرورة تجميع شتات من يؤمن بفكرة توحيد اليسار والديمقراطيين فتسعى لحشد جميع القوى القريبة منها حول مشروع عقلاني وعملي وديمقراطي يمكنها من طرح نفسها جديا كبديل للأحزاب المهيمنة. وربما يدفعها ذلك إلى المبادرة سريعا ببلورة قراءة موضوعية للواقع السياسي والانتخابي وإلى التحول تدريجيا إلى مشروع حكم. فتنتقل إلى موقع الفعل وتطور مبادرات قوية تجاه الناخبين الذين قاطعوا انتخابات 2014 وتسعى لحشد أنصار جدد من بين غير المرسمين في سجل الناخبين عن طريق الضغط في اتجاه فتح باب التسجيل لقرابة 4 ملايين ناخب إضافي. فتفسد مخططات الأحزاب الكبرى الساعية دوما إلى الحفاظ على الخارطة الانتخابية الناتجة عن الانتخابات الفارطة كما هي. وذلك غير ممكن بدون التخلي عن إنغلاقها وعن مواصلة إهمال القريبين منها ومن كانوا في لحظة من اللحظات منتمين لأحد الأحزاب المكونة لها. مما يجعلها لا تفوت مجددا فرص الاستفادة من خزان هائل من الكفاءات البارزة الموزعة على طول البلاد وعرضها ما فتئت تقتطع الرباط الذي يربطهم بها ولا تسعى إلى تجميعهم والإنصات لهم. في حين تستفيد منها الأحزاب الأخرى غير الدينية ويتبوأ بعضها أعلى المناصب.