كلمات أو خواطر تدور في ذهني، أردت أن أخطتها اليوم الخميس الثالث عشر من شهر يناير أحد عشر وألفين من أحد مستشفيات مدينة بون الألمانية حيث تقرر أن أجري عملية جراحية أسأل الله أن يجعل عاقبتها خيرا. ورغم أن العملية ليست خطيرة ولكن ضعف الإنسان يجعل الخوف يطرق بابه خاصة مع "الصراحة الغربية" المبالغ فيها عندما يحدثونك عن كل الأمور المحتملة التي قد يتسبب فيها التبنيج الكلّي، أو الأخطاء المحتملة في التنفيذ، ثم يصفون لك كيفية العملية حيث أنهم سيثقبون العظم ليمرروا قناتا اصطناعية بين العين والأنف لانسداد القناة التي خلقها ربنا ولم نكن نعلم أنها نعمة عظيمة تستحق الشكر، وصدق الله العظيم إذ يقول: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها".. شعور قد يمر على أي إنسان قادم على عملية جراحية مهما كانت بساطتها، ثم تأتيني صفعة من اليمين فأدير خدي الشمال لصفعة أخرى، حين تمرّ أمامي صور قصف عصابات "بن عليّ وُوتَرْ" لأهلنا وإخواننا في تونس الحبيبة الذين يهشّم رصاص الغدر عظامهم ويفلق رصاص القمع رؤوسهم ويخرج أدمغتهم ومع ذلك يواجهون القمع بصدور عارية وإصرار على هدم عرش الطاغية متحدّين المثل المخذّل المبثوث في ثقافتنا "الكفّ لا يعاند المخرز"، وها قد عاندت كفوف شباب تونس الأحرار مخارز بن علي الغدّار فعوجتها رغم الدماء وتكاد تكسرها بعون الله مُطلقها. واكبنا جميعا أخبار صراع " الأكف والمخارز" لحظة بلحظة، حاولنا أن نكسر الطوق عن أهالينا وشبابنا التائق للتحرر من براثن الإستبداد، بلغنا أصواتهم عبر موجات راديو كلمة وغيره، وشاء الله أن أنسحب ولو جزئيا، رغم أني حملت عدّتي معي للمستشفى، أدوات الجريمة في "تونس زينسكو" الجهاز المحمول والإنترنت. شريكي بالغرفة شيخ ألماني في السبعين، عند دخولي قدمت له نفسي بأني تونسي الأصل، فردّ "اضطرابات شديدة هناك الآن" ثم فتح الراديو ليسمعني. قلت الآن نفض إعلامكم وسياسيوكم أيديهم من نظام "بن علي" بعد أن كان يتلقى منهم كل الدعم المادي والمعنوي؟ الآمال معقودة على هذه الحركة الشعبية، الشبابية أن تمضي قدما ولا تعبأ بالمخذلين والسمسارة الذين يرمون حبالهم لدكتاتور يغرق من أجل أن ينقذوه وهم لا يريدون به ولا بتونس ولا بشعبها أوشبابها خيرا، إنما همّهم أنفسهم وحلمهم أن يجدوا طريقا يكرّرون به الإستبداد بصورته الحالية أو بصورة مختلفة. صدّقنا بن عليّ وكذبنا أنفسنا ومعرفتنا بماضيه الدموي عندما قال "لاظلم بعد اليوم ولا رئاسة مدى الحياة" ثم كان عصره عصر ظلم وقهر وانقلاب على الوعود والعهود وضحك على وعيينا واستغفل واستبله مداركنا، فضرب الشعب بالشعب والأحزاب بالأحزاب، ونهب بأسرته البلاد وأذل العباد، ثمّ وكذبوا علينا بالدعاية للمعجزة الاقتصادية والبنية العمرانية، فتبين أن البلاد قد أثقلت بالديون وأن أجيالنا القادمة مدينة قبل أن تولد بأموال نهبها آل الرئيس وزوجته. لم يكن البوعزيزي رحمه الله هو أول من نبّهنا للكذبة الكبرى التي يستر بها "بن علي" عورة استبداده، وإنما أحداث الحوض المنجمي قبل ذلك، والرجل المسن من بوسالم"المروكي" قبل ذلك، وعبد السلام تريمش بالمنستير قبل ذلك، وغيرهم كثير، مشاهد فقر وخصاصة تراها العين وتسمعها الأذن تدمي القلوب، ومعزوفة الكذب كالإصطوانة المشروخة تراوح مكانها بنفس النغمة. طفح الكيل بشباب تونس الواعي والمتعلم والمكبوت الذي لا يجد أحزابا تأطره ولا منظمات أو جمعيات مستقلة ينشط ضمنها، كل توق نحو الإستقلالية مضروب محاصر، السياسية عند الشباب تهمة وجمرة لا يريدون الإقتراب منها البطالة تنخرهم، رجل الأمن يذلهم، الرشوة تقهرهم، والحرمان يدمر بناءهم ويلقي بهم طعاما للحيتان أو فحما للنيران. ضُرب بن علي وعصابته من حيث ظنوا أنهم في منعة عندما جففوا منابع التدين وضربوا المنظمات الطلابية الفاعلة ومنعوا الأحزاب الجماهرية، فجاءهم لفيف من الشباب، ولد في عهدهم النكد وفي مدارسهم تعلم، جله غير مؤطر، كثير منه لا عدو له إلا الاستبداد وقهر الرجال، تجد كثير منهم في التسجيلات التي بثوها خلال مواجهاتهم مع "ميليشيا زينسكو" يكبّرون الله ويهللونه وفي الآن ذاته يسبّون الجلالة ويقولون كلاما غاية في البذاءة مساكين أبناؤنا نشؤا في "عهد سبعة نوفمبر" النكد فأجلب عليهم بمفسديه ومخربيه، لكنه سوّد شيئا من بياض صحائفهم وبياضها لا محالة غالب. خطآن ترددا في هذه الإحتجاجات أولهما ترديد أن المشكلة، مشكلة بطالة وما هي كذلك، فالبوعزيزي رحمه الله كان راضيا صابرا، يكافح بما تيّسر له ولكنه لما ظُلم وتعرض للإهانة ولم يجد الجهة التي تنصفه أقدم على ما أقدم عليه، وليست المشكلة مشكلة أصحاب شهائد عاطلين، فالبوعزيزي لم يكن من أصحاب الشهائد العاطلين، كما روّج. وأما الخطأ الثاني فهو استمرار الحديث لمدة طويلة على أن كل التحركات كانت مساندة لسيدي بوزيد وهي ليست كذلك وإنما هي تحركات عامة لها مطلب واحد وهو الإصلاح في كل الميادين التي نخرها الفساد، وقد عمّ الأمر الآن ولم يعد الحديث مقتصرا على سيدي بوزيد. الأمل في الأبناء الشباب أن يواصلوا زحفهم دون وصاية وألا يعبؤوا بالمخذلين أو المخربين، الجلاد يترنح وقد يسبق سقوطه نشر هذه الكلمات، ولكن الأمل في شبابنا الواعي أن يحاصر المندسين والمخربين واللصوص. شبابنا الذي عرّض صدره للرصاص ومنح دماءه غزيرة من أجل تحرر تونس تحرر لا يقل عن تحررها الأول من المستعمر ، رساليّ وليس مخرّبا أو لصّا، ولكن الشياه السوداء موجودة في كل قطيع كما يقول المثل الألماني. الخوف كل الخوف وقد بدأ يتصاعد أن كل ثورة شعبية لا تبرز نخبة عاقلة توجهها وتأطرها تتسبب في كوارث أو تزيد من تمكين المستبد. أيتها النخبة لا ضير أن تأطري أو توظفي أو تقودي ولكن الوحدانية لا تجدي، ورأيي "وإلا انبطل" لا يحل المشكلة بل يعقدها، لا بد من التعاون والتوافق والتنازل، وقبول كل طرف بالآخر مها كان الاختلاف ، ليس مطلوبا أن تتحالفوا ولكن الشرط أن تتفقوا ولو على حد أدنى، نعلم ما ينخر كثيرا منكم من "أنا" ولكن "الأنا" ستضيع دماء تونس وحليبها، إن كنتم تزعمون حبا لتونس. لا للإقصاء ولا للإستقواء، الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، والشعب هو الحكم. تعلمون أن هذا الغرب الذي صمت طويلا على جرائم بن علي وغيره من المستبدين الموالين، لم يكن لينفض يديه منه لو لا هبة شباب تونس، ودمائه الزكية. لا للوصاية الغربية على بلدنا، ولا نريد أن نحررها من طاغية لنرميها في حجر مستعمر أو انتهازي أوعدو. ليس الغرب من يحدد لنا ماذا نفعل وماذا نترك حتى يرضى عنّا ويقبل بنا، نعم لحسن الجوار، نعم للإحترام، نعم لتبادل المصالح ولا للوصاية الوقحة. حملني على هذا الكلام ما بدأ يتسرب من تصريحات أقوام بدأوا يسوقون أنفسهم بديلا للطاغية. أما أبناؤنا الشباب ومن سيلحق بهم فإني والله أخجل أن أنصحهم، ولكني على يقين بأنهم بالمرصاد لكل من يأتي بعد بن علي، أكان من جبته أو من سلة المعارضة. (كتب قبل خطاب الرئيس المذاع الساعة الثامنة ليلا من يوم 13 جانفي) سيرتفع الآن مباشرة (بعد فراغ بن علي من خطابه) صوت أصحاب حبال النجاة، اتصل بي وزير سوداني سابق دكتور ومفاوض وله خبرة طويلة عمره عمر "رئيسنا" مباشرة بعد الخطاب وقال بالأنقليزي" تُو ليتّلْ تُو لاَيْتْ" ( قليل جدا ومتأخر جدا). نعم متأخر جدا وقليل جدا، مناورة لربح الوقت، هكذا أراها، ماذا عن الدماء ومن أمر بسفكها ؟ أليس الرئيس هو المسؤول الأول عن إعطاء مثل هذه الأوامر؟ أكثر من عقدين من الزمان والشعب يصرخ ومنظماته تنحب، والجواب دائما "شرذمة قليلون مناوؤون خونة". هل حوسب شخص واحد؟ في كل تلك الجرائم؟ عن أي منظمات وأحزاب يتحدث؟ هل يمكن أن نتحدث عن أحزاب في تونس والنهضة وحزب العمال غائبين؟ وهما أكثر الأحزاب جماهرية أحبّ من أحبّ وكره من كره؟ أو غيرهما من الأحزاب وإن كانت أحزاب "تاكسي" كما يحلوا للبعض أن يسميها؟ هل يمكن أن يكون الخصم حكما؟ ... وماذا عن نهب المال العام والثراء الفاحش لعائلته وأصهاره؟ ... وماذا عن تجارة الممنوعات وإفساد البلاد وشبابها بالمخدرات؟ هل ستحقق فيها لجان مستقلة؟ وماذا عن ثروة الرئيس وحرمه هل يمكن محاسبتهما وسؤالهما من قبل أي لجنة من أين لكما هذا؟ ... وماذا عن دماء خيرة شباب تونس ورجالها أليس دم الواحد منهم أغلى من كل الأموال المنهوبة؟ ورسول الله يقول "لهدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من إراقة دم امرئ بغير حقّ"! وماذا عن مظالم عشرات الآلاف من التونسيين داخل الوطن وخارجه طيلة عقدين من الزمن ألم يكونوا جديرين بفقرة خاصة من الخطاب؟ الذي ما زال يتحدث عن الفئة والقلة! دعم الديمقراطية وحماية الدستور، وتطوير الإعلام ألم يكن ذلك ديدنه في كل خطاب بمناسبة انقلابه؟ ... كيف نصدقه الآن وهو يقدّم كلاما مفخخا؟ هل كانت تونس في حاجة إلى كل هذا الدمار والدماء ليقول رئيس الدولة سمعنا وفهمنا والرسالة وصلت؟ فقرة واحدة ربما تكون مقبولة، لو أنه قال "إنني أعلن فشلي وأتحمل مسؤوليتي وأعلن استقالتي وسأستمر في مهمتي لشهر أو شهرين فقط حتى ترتب انتخابات سابقة لأوانها بإشراف عربي ودولي مستقل ولا يستثنى أحد من المشاركة فيها" السيد الرئيس، يريد عهدا جديدا لعهده "الجديد". والأمر لكم يا شباب تونس فأنتم من حمله على هذا ّالتنازل" وليس للسماسرة، الذين أنتم أعلم مني بأسمائهم وأمكنتهم وألوانهم. نعم للاختلاف نعم للتقديرات المتباينة، ولكن بشيء من التنسيق ودون سمسرة. صابر التونسي (طه البعزاوي) 13جانفي 2011 من المستشفى ومرضي ليس سرا من أسرار الدولة