أمر قُضي بليل" أو "أمر دُبّر بليل" هو مثل عربيّ قديم يستعمل عادة للإشارة إلى أن مسألة ما، ليست تلقائية ولا وليدة اللحظة، وإنما هي مسألة مُدّبرة، تم التخطيط لها مسبقا، بقطع النظر عن نُبل التدبير والتخطيط أو لؤمه. فالمثل المذكور أوّل من استعمله حسب ما ورد أبو جهل في ردّه على المجموعة القرشية التي دعت لكسر اتفاقية الحصار المسلطة على بني هاشم وبني المطّلب المحاصرين في شعب أبي طالب حتى يسلّموا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تداعت المجموعة المذكورة واتفقت ليلا ليُعضد بعضها بعضا نهارا ويمزقوا صحيفة المعاهدة الظالمة أمام سادة قريش! لكن هذا المثل تداولته الأجيال وأصبح يطلق أساسا على المؤامرات والدسائس والأمور التي تُمرّر بالدهاء والخبث الظاهر أو الخفيّ. وهو نفس المثل الذي لم أجد غيره لأطلقه على الظروف التي "دُبّر" فيها الؤرخ في 22 أكتوبر 2011 والموقّع من قبل رئيس الجمهورية المؤقت "فؤاد لمبزّع" باقتراح من وزير العدل "المؤقت" ومن وراءه.
يقضي المرسوم بإضافة فصل خامس للفقرة الرابعة بمجلة الإجراءات الجزائية الصادرة بالقانون عدد 23 المؤرخ في 24 جويلية 1968. ونص الفصل المضاف هو :
"تسقط الدعوى العمومية الناتجة عن جناية التعذيب بمرور 15 عاما".
وبالعودة إلى تاريخ صدور المرسوم المذكور نرى أنه "دُبّر" ليلة 23 أكتوبر 2011، أي ليلة انشغال التونسيين بأول انتخابات مصيرية تشهدها بلادهم بعد فرار الطاغية. وقد أختير التاريخ بعناية، حيث أن الرأي العام التونسي كان منشغلا بالانتخابات وما لحقها من انتظار للنتائج وما تبعها!
وقد جاء هذا القانون الشاذ عن المسار مستخفّا بالاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها تونس والتي تُصنّف التعذيب ضمن الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، كما جاء مستخفا بالآلام والجراح الغائرة في صفوف التونسيين الذين مُورست عليهم أشد أنواع التعذيب، والذين كان الجلادون يتقرّبون زلفا بعذاباتهم و شواء لحمهم، لدى سيدهم "بن عليّ".
كما دلّ صدور هذا القانون على مدى استخفاف الذين "طبخوه" بدور المجلس التأسيسي والمهام المنوطة بعهدته!
مخطئ من ظن أن "بن علي" كان يقمعنا ويعذبنا بنفسه ومخطئ من يعتقد أن كل جرائم التعذيب تمت بأمر منه، لأن التعذيب في تونس لم يبدأ مع "بن علي" وإنما بدأ مع سلفه بورقيبة، وأن غالبية جلادي العهدين مازالوا على قيد الحياة، وبعضهم لازال في منصبه أو في منصب أعلى منه، كما أن معظم ضحايا العهدين مازالوا أحياء ينتظرون الإنصاف وردّ الاعتبار. لا بد من المحاسبة لأن انعدامها سيشجع من خَدم "بورقيبة" أو "بن علي" من خلال ممارسة التعذيب على سلوك نفس النهج "لخدمة" غيرهما.
حدثني الأستاذ المحامي محمد الهادي الزمزمي أن الجلاد "م ن" كان يشرف على تعذيبه سنة 1987، وكان الأستاذ الزمزمي معلقا والجلاد المذكور يمعن في تعذيبه ويقول له والله إذا وصلتم للحكم فسأخدمكم بنفس الإخلاص والطريقة!! ... وكلاهما على قيد الحياة!
آلاف القصص المرعبة والجرائم الفظيعة تعرّض لها التونسيون على اختلاف مرجعياتهم الفكرية والسياسية في مقرات الداخلية، لا بدّ من توثيقها ومحاسبة مُرتكبيها حتى لا تتكرّر المآسي! وحتى لا يكون هذا المرسوم "اللقيط" سببا في انتشار الفوضى والثأر أو ما يسمى "بالعدالة الذاتية"! كيف يمكن أن يُرى ضحية مثل السجين السياسي السابق "ع ق" وفقا لهذا القانون الذي يحرمه من متابعة جلاده "ط ن" وهو يَراه أمام عينيه، ويتذكّر وجبات التعذيب الخيالية التي مارسها ضدّه سنة 1991، والتي منها حسب ما يرويه أنه أخذه ذات ليلة إلى مكان قفر وحفر له حفرة ودسه فيها مكبلا ثم بدأ يهيل عليه التراب موهما إياه بأنه سيدفنه حيّا، ثم ملأ فمه بالتراب وكسّر ثلاث من أسنانه بيد "البالة". ويروي (ع ق) أيضا أن الجلاد المذكور كان يعمد إلى ربط خيط في أماكنه الحساسة ثم يشد طرف الخيط على حزامه ويجري بين مكاتب المنطقة الأمنية، وهو لا يملك إلا أن يجري خلفه من شدة الألم!!
لست داعيا للانتقام أو للحقد أو الكراهية، أو لتبادل الأدوار بين الجلادين والضحايا، وإنما أعتقد أن الحديث عن "عدالة انتقالية" بعد ثورة شعبية، لا يمكن أن يتم من غير محاسبة للمجرمين!
كما أن الحديث عن المصالحة لا يمكن أن يكون إلا بعد المحاسبة، وكما يقول المثل التونسي "ورّيني حقّي وخوذو" لكن لن تأخذوا حقوق الناس بالإكراه.
ولا أحد في سلطة أو معارضة يملك صلوحية التنازل عن حقوق الضحايا نيابة عنهم ودون إذن منهم! ... مها كانت الإتفاقات والشروط التي يمكن أن تحاك خلف الكواليس! لابد أن يعرف الضحايا حقوقهم، وينال من تثبت ضده جريمة التعذيب جزاءه من قبل القضاء العادل والمستقل، وبعد ذلك لا بأس أن يُشجّع الضحايا على الصفح فيعفوا عن المجرمين ويتجاوزوا ويطووا صفحة الماضي.
إن جراح العهد البائد غائرة وعميقة وإن صدور ما سُمي "بالعفو العام" لم يمحها لأن ذلك العفو كان وكأنه مِنّة على "مجرمين" وتكرّما من أصحاب حقّ! مع أن جلّ الذين صدر في حقهم ذلك العفو لم يستطيعوا أن يتمتعوا به بسبب كثرة التعقيدات الإيدارية، حتى أن عددا كبيرا من أعضاء المجلس التأسيسي المنتخب مازالوا محلّ بحث وتفتيش حسب أجهزة الداخلية!
إذا أردتم طيّ ملف التعذيب فلنطبق عليه شروط التوبة، وتعلمون أن التوبة نوعان: توبة من ذنب بينك وبين الله، شرطها أن تقلع عن الذنب وأن تندم عليه وأن لا تعود إليه! وتوبة متعلقة بحقوق العباد وشرطها، الشروط الثلاثة آنفة الذكر ينضاف إليها شرط رابع وهو ردّ المظالم والحقوق لأصحابها! وبعدها نتجاوز ولا ننسى، وتكون تونس لكل أبنائها، الذين يقبلون بالتعايش رغم الإختلاف!