أعلنت إيران في شهر أيلول / سبتمبر الماضي عن انشاء مرکز نووي جديد لتخصيب اليورانيوم قرب أحد قواعدها العسكرية بمنطقة (فوردو)القريبة من مدينة (قُمْ)، ثم أتبعت الإعلان بتجارب صاروخية بعيدة المدى، قادرة على ضرب إسرائيل أو القواعد الأمريكية المنتشرة في المنطقة حسب مداها المصرح به. سعي إيران لتطوير قدراتها العسكرية وامتلاك التكنلوجيا النووية وإن كان لأغراض سلمية يصطدم بإرادة القوى العسكرية الكبرى التي تهيمن على القرار في مجلس الأمن الدولي. تلك القوى التي يمتلك معظمها السلاح النووي ولها مصانعها النووية ذات الأغراض العسكرية والسلمية على حد السواء تعمل باستمرار على تطوير قدراتها العسكرية في كل المجالات، وترفض بشدة أن ينضم إلى ناديها أعضاء جدد، خاصة إذا كان طالب العضوية دولة إسلامية مثل إيران التي يعتبرون سعيها لامتلاك القوة تغيير لموازين القوى في المنطقة وتهديد لمصالحهم فيها. وبقطع النظر عما إذا كان الكشف الإيراني عن المنشأة الجديدة، ناتج عن كشف مخابراتي سابق كما تزعم بعض الأجهزة، أو كان كشفا مبدئيا في إطار الإلتزام بفتح المنشآت النووية أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتأكد من سلمية البرنامج، فإن الإعلان أثار ردود أفعال دولية متصاعدة تطالب بالتوقف الفوري عن المضي في المشروع ، الذي تصر إيران على أنه حق لها ما دامت ملتزمة باتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، وموقعة على التعاون الكامل مع الوكالة الدولية. وذلك هو الحد الأقصى الذي تلزم به إيران، معتبرة على لسان مسؤوليها أن حقها في تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية خط أحمر لا يمكن التنازل عنه. وهو قرار سيادي قد يسبب التنازل عنه إحراجا لسلطة المحافظين أمام جمهورها الداعم لها في مواجهة القوى الإصلاحية، والمعارضة التي كانت هي السبب الرئيسى في "انفجار" الصراع عن الملف النووي بكشفها عن مفاعل (ناتانز) السري الذي اعترفت إيران بوجوده اضطراريا سنة 2002. ولكن القوى التي تسعى لعرقلة إيران عن تطوير قدراتها العسكرية التقليدية أو ولوج ميدان التكنلوجيا النووية ، لا تتعامل مع إلتزامات إيران من منطلق إمضائها على الإتفاقيات الدولية وتصريحات مراجعها الدينية الرافضة لامتلاك السلاح النووي من وجهة نظر شرعية، بقدر ما تتعامل مع التقارير المخابراتية التي تحذر من تنامي القوة الإيرانية وتحتمل أن تمتلك إيران القنبلة النووية في سنة 2013. الخوف من امتلاك إيران للسلاح النووي مع امتلاكها للصواريخ بعيدة المدى القادرة على ضرب العمق الإسرائيلي، إضافة إلى الدعم الإيراني العلني لحزب الله في مواجهته مع إسرائيل وكذلك الدعم المادي والمعنوي لحركات المقاومة الفلسطينية، وتصريحات الساسة الإيرانيين وخاصة منها تصريحات الرئيس محمود أحمدي نجاد المعادية للإحتلال الإسرائيلي، يمنح إسرائيل الفرصة لتقديم نفسها في صورة الضحية المتربص بها من دول الجوار، ويمكّنها من حشد التعاطف معها، وتحريك اللوبيات التابعة لها في العالم لابتزاز القوى العالمية الكبرى ، على صعيدين، أحدهما: تذكير تلك القوى لتجديد إلتزامها بحماية إسرائيل وضمان بقائها وتفوقها العسكري، وثانيهما: السكوت عن الجرائم التي ترتكب في حق الشعب الفلسطيني، من حصار وحروب إبادة جماعية واحتلال واستيطان وتملص من الإتفاقيات والمعاهدات، وكذلك السكوت عما تمتلكه من قوة نووية. وقد نجحت اللوبيات الصهيونية في استغلال التصريحات الإيرانية المعادية لها فحركت كثيرا من المؤسسات الإعلامية الغربية لتصنع رأيا عاما داعما لالتزام الدول الغربية بأمن إسرائيل، محذرا من نظام "آيات الله"، فارضا على الساسة الغربيين أن يخرجوا للتعقيب على أي تصريح للرئيس نجاد يتعرض فيه بالنقد أو التهديد لإسرائيل، ليعلنوا عن دعمهم ومساندتهم اللامشروطة للوقوف إلى جانبها وتوفير الأمن لها. ولم تجد الدول الغربية بقيادة الولاياتالمتحدة أي مشقة في تخويف الأنظمة الحاكمة بالمنطقة من الخطر الإيراني وتصويره على أنه هو الخطر الحقيقي الذي يهدد وجودها وأمنها القومي ووحدتها الداخلية. وتقديم إسرائيل على أنها الحليف الإستراتيجي للدول العربية أمام "الخطر الفارسي" القادم لا محالة! في المقابل تجد الأنظمة العربية "الخطر الفارسي" مبررا لاقناع شعوبها بضرورة بقاء القواعد الأمريكية على أراضيها، لأنها الأقدر على الوقوف أمامه، بالضبط كما كانت الأقدر على الوقوف أمام الأطماع "البعثية العراقية" في المنطقة. وأن أخف الأضرار السماح ببعض "مواطن الأقدام" للأمريكان وحلفائهم بدل أن تلتهم إيران الخليج العربي ويصبح خليجا فارسيا كما كان ذات يوم! وذلك كله يستدعي بالضرورة علاقات حسن جوار مع إسرائيل التي تشترك مع دول المنطقة في العداء للنظام الإيراني الساعي للتمدد على حساب جيرانه! دون أن نغفل أن إيران أو بعض الأطراف الفاعلة فيها تساهم بإعطاء المبررات لمثل تلك التخوّفات العربية من الرغبة التوسعية، وذلك من خلال تغلغلها في الساحة العراقية وحرصها على إمساك كثير من خيوط اللعبة هناك بالتعاون مع المرجعيات التي تدين لها بالولاء، وكذلك دعمها للأقليات المذهبية التابعة لها في المنطقة، مما يجعلها متهمة بمواصلة سياسة تصدير الثورة التي لم تكن أمرا سريا قبل أن تتحول إيران من ثورة تسعى إلى التوسع إلى دولة تعمل على أن تكون قوية! المفاوضات الإيرانية حول أنشطتها النووية، لا يتوقع أن تحسم بسرعة وسهولة كما توقع بعض المحللين مؤخرا بعد أن أعلن المسؤول الإيراني (علي أصغر سلطانية) من فينا أن إيران ستدرس مشروع الإتفاق المقترح من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذي قبلت به روسيا وفرنسا والولاياتالمتحدةالأمريكية، وملخصه أن إيران سترسل الجزء الأكبر من مخزونها النووي المنخفض التخصيب إلى روسيا حتى نهاية سنة 2009 لمزيد التخصيب وإعادته إلى إيران ليتطابق مع حاجة إيران لاستخدامه في المجال الطبي، ويوكل لفرنسا الإشراف على العملية وتنفيذ جزء منها تخصيبا وشحنا! وقد توقع بعض المحللين أن إيران لن تقبل الإتفاقية بشكلها الحالي لأنها ستفقد كل ورقاتها بعد أن يصبح مخزونها النووي خارج حدودها. كما أن عملية التخصيب التي ستتم في مصانع أجنبية بدل المنشآت الإيرانية لن تكون عملية مجانية وإنما ستدفع إيران فاتورتها الباهظة بما يحقق أرباحا للشركات الغربية ويوهن الخزينة الإيرانية. نخلص إلى أن إيران بين أمرين أحلاهما فيه ما يكفي من المرارة، ذلك أن تمسكها بمشروعها النووي وتطوير قدراتها العسكرية المستفيد الأول منه هو إسرائيل والولاياتالمتحدة وبقية الدول المصنعة للإسلحة التي ستجد أسلحتها رواجا في السوق العربية والخليجية أساسا. وكذلك فالمستفيد من تخلي إيران عن مشروعها النووي واستجابتها للضغوط الغربية، هو الدول الغربية ذاتها التى ستجد ما تقنع به الرأي العام لديها، بأنها منعت دولة "آيات الله" من امتلاك السلاح النووي، وحركت إقتصادها بتفعيل شركاتها التي ستقوم على مشروع التخصيب نيابة عن إيران بأثمان باهظة. وأما الخاسر الظاهر في الحالين فهو إيران نفسها، إن أصرت على التمسك بحقها في تطوير قدرتها العسكرية وامتلاك التكنلوجيا النووية، ربّما تحول التلويح باستعمال القوة ضدها إلى فعل يدمر منشآتها النووية ويضرب قوتها العسكرية. وإن توقفت عن برنامجها النووي خسرت كثيرا من الدعم الشعبي الداخلي والخارجي وفقدت كثيرا من مصداقيتها، وقوّى ذلك معارضتها! ... مع أن التجارب السابقة تؤكد أن المطالبين بتوقف المشروع النووي الإيراني لن يكتفوا بذلك الطلب إذا ما استجابت إيران، بل سينتقلون لطلب أدنى منه، حتى تُقزم القوّة الإيرانية وتقلع أنيابها ومخالبها! ونكون أمام صورة جديدة لسيناريو المشهد العراقي بين 1992 و2003! هناك شبه إجماع من المحللين على أن إيران تحاور وتناور من أجل كسب مزيد من الوقت، ولكن تأويل تلك المناورات ليس قطعيا، حيث يرى بعضهم أن إيران تحاول كسب الوقت من أجل تحسين وضعها التفاوضي في حين يستند آخرون إلى التقارير المخابراتية آنفة الذكر لتفسير ذلك من أجل العمل على إتمام مشروعها لامتلاك السلاح النووي! ولكن تبقى تلك التحليلات مجرد تخمينات ليست مبنية على معطيات قطعية. مع التذكير بأن إيران تمتلك حاليا كثيرا من ورقات الضغط في تفاوضها، لعل أهمها، قدرتها على الزيادة في زلزلة الوضع تحت أقدام القوات الأمريكية وحلفائها في العراق! أ و التهديد بسلاح النفط وكذلك بالمصالح الإقتصادية للشركات الغربية في إيران، إضافة إلى علاقاتها شبه الجيدة بالصين وروسيا وانضمام تركيا كمساند معنوي لها. إيران أمام صراع إرادات، الرابح فيه من يدفع أشر الشرين ويقنع بأدنى الخيرين!