من من جيل السبعينات والثمانينات لا يتذكر " فيلسوف التعاسة" ؟ ذاك الرجل الطويل والنحيف، المبتسم دوما، رغم مسحة الحزن التي تنهش وجهه المثخن بلحية منفلة غزاها البياض؟ كان يمثل طيفا شارعيا يدعي المعرفة في كل شيء، يبيع القوالب الكلامية الجاهزة، ويروج للنظريات المحنطة، التي يرددها آليا دون أن يدرك معانيها. يعترضك " فلاسفة التعاسة" في شوارع العاصمة ومقاهيها وحاناتها ومسارحها وقاعاتها السنمائية وفضاءاتها الثقافية، بشعورهم الكثة ولحيهم الفوضوية وقد تأبطوا كتبا قديمة مهترئة لسارتر وكامو وماركس ونيتشه ومظفر النواب...، لم يفتحوها يوما، ولكنها تلازمهم في حلهم وترحالهم، يجالسونك نهارا، في الفلورونس ولونيفار وعند الزنوج وبار نور الدين ومقاهي تونس وباريس والروتوند، ويقاسمونك ما تشرب بكل " حق واستحقاق"، فتنزل عند رغبتهم راضيا مرضيا، لطرافتهم وتلقائيتهم وبؤسهم، ثم يسبقونك عشية، إلى داري الثقافة ابن خلدون وابن رشيق، وهناك يجدون الفضاء الملائم للثرثرة و0دعاء المعرفة، فتبتسم لهم شفقة عليهم، أما في الليل، فقد تجدهم وقد تبوؤوا أمكنتهم في ملاهي مون سنيور والبوتينيار والكريزي هورس، وكلما دخلت تلك الأماكن إلا وانطلقوا نحوك مرددين، بعربية قحة شكلا ومعنى: " ميزان الدفوعات مختل يا رفيق"! فتستجيب لطلبهم وتدس في أيديهم ما تيسر من "وسخ الدنيا" !!! كانوا أول من يعلم بوصول جرايات الموظفين ومنح الطلبة، فيعدون القصائد الشعرية والمدائح الرنانة ل0ستقبالك بها طمعا في ما ستمن به عليهم ! تذكرت " فلاسفة التعاسة" وأنا أرى جيلا جديدا منهم يتقن التسول والكذب والبهتان، ولكن ليس بالطرافة والتلقائية والبوهيمية والبؤس التي كان عليها الجيل الذي عرفناه ! وإنما بالمكر والخداع والجهل المطبق، والكذب والبهتان، وبالهندام الأنيق واللحى الكثيفة والمشذبة أو المرداء، و الشوارب المفتولة والكثة أو المنتوفة، والنظارات ذات الإطارات الأنيقة الملونة، أو تلك المحدبة كقعر قارورة الجعة: " كرونيكورات" و" محللون سياسيون" و" منظرون ثقافيون"، يتكلمون في كل شيء، بالقوالب والمصطلحات الجاهزة ذاتها، يقدمون كتبا لم يقرؤوها ويسردون وقائع لم تحدث أبدا، ينسبونها إلى مشاهير غادروا الحياة الدنيا حتى لا يحاججهم في صحتها أحد، ويستندون إلى مقاربات يجهلون ظروف بروزها ومعانيها، ويلوكون جملا ممجوجة وتعابير مقرفة، ويقذفون بين الحين والآخر بكلمات فرنسية ينطقونها بطريقة تدعو إلى الإستهزاء، هذا إن لم يعبثوا بها ! فرق شاسع بين أخلاق " فلاسفة التعاسة " في ذاك الزمن و"خلايق فلسفة" التعاسة" اليوم، ولم يبق جامعا بينهم إلا خيط الجهل و0دعاء المعرفة .