ما الذي جعل الأمور تنقلب رأسا على عقب بهذه السرعة المذهلة؟ بالتوازي مع الحملة الأمنية التي تقودها السلطة ضد بعض الشخصيات التي تحوم حولها شبهات فساد كثيرة في البلاد… تقود وسائل الإعلام على اختلاف ألوانها وأشكالها حملة هوجاء وذلك على مستويين. المستوى الأول إشهاري ترويجي.. حيث انخرطت كلها وفي وقت واحد لتصوير الأمر على أنه إنجاز بطولي عظيم ليس له مثيل ومن ثم تتخلص إلى استغلال هذا التحرك لتلميع صورة رئيس الحكومة ولتقديمه على أنه بطل أسطوري وأنه هو وحده من يقف وراء هذا القرار وأن البلد قد انصلح حاله وتونس قد تخلصت من كل أزماتها وقضت على الفساد كل الفساد في ضربة واحدة… أما المستوى الثاني وهو الأخطر فقد تم استغلال ما لقيته هذه المبادرة التي طالما انتظر التونسيون القيام بها كاستحقاق أساسي من استحقاقات الثورة التي طالما تلكأت الحكومات المتعاقبة في اتخاذها من رواج واستحسان وهو الأمر الطبيعي… للشروع في شن حملة تصفية حسابات مع كل الخصوم السياسيين ومع كل الأصوات المعارضة وذلك لتشويه كل التحركات الاجتماعية الاحتجاجية ولتصوير كل من يطالب بحقه على أنه فوضوي وضد الوحدة الوطنية ومهدد لأمن واستقرار البلاد ؟؟؟ ومن ثم تحاول أن تدفع إلى أن يتم التعامل مع الجميع بقبضة من حديد وتدعو إلى تكميم الأفواه وقمع كل الأصوات المعارضة…؟؟؟ وهكذا يتم تصوير المنظمات والأحزاب والشخصيات التي تطالب باحترام القانون وباحترام حقوق الانسان بالثورجيين والمحرضين والطابور الخامس.. إلى غير ذلك من النعوت القبيحة … كل ذلك من أجل حسابات سياسية ضيقة ومن أجل تخويف وترهيب الجميع وذلك تحت مسمى استعادة الدولة لهيبتها؟؟ أن هيبة الدولة ومدى احترام المواطنين لها مرتبط بمدى مصداقيتها ومدى حرصها على خدمة الوطن والشعب ومدى سعيها لمحاربة الفساد ولإحقاق الحقوق وبناء مجتمع العدالة والإنصاف… وليس باستخدام العصى الغليظة والترويج للانجازات الوهمية و والتطبيل والتزمير لرموز السلطة وتشويه وشيطنة كل المخالفين والمعارضين والمطالبين بحقوقهم… إننا ومنذ أيام قليلة فقط كنا في صراع مرير بين من يريد تمرير قانون غير شعبي وتحوم حوله انتقادات وشكوك كبيرة رغم كل المحاولات التي قامت بها جوقة الاعلام الموالي للسلطة من أجل تلميع صورته ودفع الناس لاستساغته والذي اختير له من الأسماء "المصالحة الوطنية"؟؟ وبين من كانوا يرون عكس ذلك ويطالبون بأن تتوقف السلطة عن طرح ذلك المشروع حتى لا يتم السطو على صلاحيات هيئات دستورية بعثت بالأساس للقيام بذلك العمل.. وبأن يتم تقديم المحاسبة والمكاشفة على المصالحة حتى تكون تلك المصالحة عن طيب خاطر ووضوح وصراحة وحتى تستخلص الدروس التي يجب استخلاصها حتى لا تتكرر نفس تلك الممارسات التي أضرت بالبلاد في المستقبل.. ولكن وفجأة ومن النقيض إلى النقيض.. وبعد ارتفاع الأصوات الرافضة لما يسمى بقانون المصالحة من جهة.. وبعد الاستقالة المثيرة للجدل لرئيس الهيئة المستقلة للانتخابات وبعض أهم أعضائها من جهة أخرى.. وبعد الأحداث المؤلمة التي جدت في منطقة الكامور من ولاية تاطاوين من جهة ثالثة.. وبعد الاجتماع الذي عقد في السعودية تحت سامي إشراف الرئيس الأمريكي ترامب والذي جمع كل القيادات العربية والإسلامية .. استفاق التونسيون على أخبار تفيد بقيام السلطات بإلقاء القبض على بعض من تحوم حولهم شبهات فساد من رجال أعمال وبعض المسؤولين في قطاعات مختلفة وذلك بتهم الفساد ومحاولة المس من أمن البلاد.. ومن ثم تنطلق حملات التسويق والتطبيل والتزمير لرئيس الحكومة ولتشن في الاتجاه الآخر حملة شعواء على كل المخالفين والمعارضين؟؟؟ فهل يدعو هذا للاطمئنان؟؟ ألم يتم القبض على الكثيرين إبان الثورة وتقديم الكثير منهم إلى المحاكمات؟؟ ثم ماذا؟؟؟ لا شيء؟؟ نحن سنكون سعداء جدا إن كان هذا الذي نراه اليوم من إجراءات يبدوا أنها تهدف إلى الشروع في مقاومة الفساد جاء في إطار صحوة ضمير ولحظة صدق وقطع مع سياسات الماضي .. وكخطوة نابعة من قناعات مبدئية ذاتية لهذه الحكومة ولرئيسها وليس في إطار طبخة ما تهدف لضرب العديد من العصافير بحجر واحد ليس أقلها تكميم الأفواه المطالبة بالتنمية والتوزيع العادل للثروة وترهيب كل الأصوات المخالفة والمعارضة وإعادة الاعتبار لسطوة الحلول الأمنية واستثمار هذه الخطوة التي هي في حقيقة الأمر استحقاق وطني في الترويج والتسويق لجهات سياسية في إطار الصراع الانتخابي المحموم خاصة استعدادا للانتخابات البلدية المقبلة… ختاما نقول إن ما قامت به الحكومة من شروع في فتح ملفات الفساد هو خطوة في الاتجاه الصحيح وهي تستحق التنويه والإشادة ولكن في حدود المعقول .. لأن ما تم هو مجرد خربشة طفيفة لورم خبيث مستفحل ومتغلغل في كل مفاصل البلاد تقريبا .. وأنه إن صدقت النوايا في القضاء عليه فذلك لن يكون بهذا الشكل الجزئي والإنتقائي والفولكلوري من أجل تسجيل بعض النقاط السياسية والانتخابية وامتصاص الغضب والاحتقان الذي أصبحت تعيش على وقعه البلاد… نحن نطالب بالجدية وبالوضوح والمصداقية والمضي قدما في هذا المسار الذي لن يكون سهلا بكل المقاييس ولكنه سيكون انجازا تاريخيا لو أنه كان بحق نابع من إرادة حرة وصادقة ومخلصة.. الأيام القادمة وحدها فقط هي التي ستجعلنا نتأكد من حقيقة ما يحدث.. وها نحن نراقب وننتظر… وكلنا أمل وخوف في الوقت نفسه من أن يكون كل هذا الذي نرى ونسمع مجرد مسكن من تلك المسكنات التي أدمت السلطات في بلادنا على تقديمها لنا منذ ما يربو عن العقود الستة… ليتهم يصدقون ويخلصون ولو لمرة واحة…