إذا قلنا "محمد بحر" فسوف لن نتوه عن لقبه الفني، فهو الفنان التونسي الملتزم، الذي غنىّ وعزف للحرية للوطن، للفقراء للممهمشين للمضطهدين، للمدن العطشى، للقرى المظلومة لفلسطين الجريحة، والتي لم تحل أصابعه على التقاعد، وظلت متأهبة وموضوعة على زناد أوتار"العود" ما يقارب النصف قرن، كما صوته بقي محلقا في الفضاء الرحب، يعيد ويستعيد مواجع "سعيد" ماسح الأحذية التي بصمت ماضيا ما يزال ممتدا في الحاضر حين لحّن وألف هذه السنفونية، التي تؤرخ معاناة طفل كادح، ينتمي الى مناطق الجياع وآت من أحياء الفقراء، عبر هذه الترنيمة المستلهمة من أدب وفن الواقع دون طلاء: ماسح الأحذية يجوب في الشوارع ويقتات في الطريق ماسح الاحذية .. وهم أصحاب المعامل يشيّدون المعامل.. وتبقى أنت تمسح، وتمسح، حتى يمسحوك.. ما ذنبك يا "سعيد" أن تكون ماسحا وأن تصيبك رصاصة طائشة… ذاك هو باختصار محمد بحر، الذي التقيناه في هذا الحوار العفوي. ليكون اللقاء موزّعا بين الفن والثورة والسياسة.. قطعت مسيرة طويلة تقترب من نصف قرن بين ثنايا الفن الملتزم، فماذا قدم هذا اللون من الابداع ل"محمد بحر"، وماذا أضفت أنت للأنشودة المتمردة واللحن الحر؟ بدأت المسيرة بشكل جدي سنة 1979، عندما قدمت عروضا غنائية أمام الجمهور الطلابي صحبة مجموعة " ايمازيغن" (الرجال الأحرار). وقبل ذلك كنت متنقلا بين الانماط الغنائية المختلفة شرقية شعبية ومالوف. وبانتقالي للجامعة التي كانت في تلك المرحلة متحركة، واكتشافي لأهم الافكار المتمردة ضد الرداءة، والمناهضة للسلطة القهرية سواء في تونس أو في المجتمعات العربية.. من هنا كانت بداية الوعي بدور الفن الهادف كأحد أدوات التغيير، من أجل عدم الخضوع، ورفض مظاهر الخنوع والتشبث بقيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية فقد أهديت للفن الملتزم كل سنوات الشباب والكهولة ولا زلت، كي أساهم في نحت الذوق وصقل الإحساس ونشر اللحن ألثوري، اللحن الواعي بقضايا وهموم وأحلام المجتمعات، وفي المقابل قدّم لي الفن الملتزم احترام وتقدير كل المهتمين المتابعين لهذا اللون، والمسكونين بهواجس الحرية والأنفة، كما جعلني مشاركا ومساهما مع كل الاحرار في تثوير الوعي الإيجابي. عزفت للثورة للرفض وغنّيت للحرية والتحدّي، وشدوت للإنسان للهموم الوطنية والأوجاع العربية، فطيلة هذه السنوات من العطاء فأيّ أثر تركته أوتارك على مثل هذه القضايا؟ يا سيدي إن زرع الشجر يحتاج الى وقت كي يثمر، والأرض كي تخضرّ وتورق تحتاج للمطر والسماد والرعاية.. وإني أرى ان الفن الهادف والواعي بمحيطه يحتاج الى الاهتمام والمساندة، وخلق مؤسسات وطنية تحمل مشروعا ثقافيا يدعم الابداعات النيّرة، التي ترتقي بالذوق والعقل، بعيدا عن ثقافة الانحطاط والانحدار والأغاني السخيفة التي تؤسس للفراغ.. ومن جانبي بكل تواضع أعتقد جازما أن الأغاني الملتزمة تحرّك الهمم، وتعطي للشعوب المقاومة جرعة من المناعة ضد الجبن والانبطاح، كما أن هذا اللون من الغناء يزرع في الروح بذور العزة والكرامة ومقاومة الرداءة.. وأنت تعزف على أوتار العود، هل كنت تعزف على أوتار الأوجاع التي تؤرّق الجمهور، أم أنك كنت تعزف على أوتار متاعبك كفنان ملتزم، يعاني غربة في عصره.. يا صديقي الفنان الملتزم المبثوث في مجتمعه والمسافر وجدانيا في وجع الآخرين هو بالضرورة ليس منفصلا عن محيطه، وغير متسللا عن معاناة أبناء بلده أو أبناء لسانه. فغربته من غربتهم، وألمه من آلامهم فإن كان عزفه أوتارا موجعه فهي ليست خاصة به، بل ملتصقة بالضرورة بما يقاسيه مجتمعه، وهي مرآة عاكسة للوجع المشترك والحلم المشترك والطموح المشترك. بين تونسوباريس مسافة جغرافية وحضارية، و"محمد بحر"، انطلق وترعرع فنيا في تونس، واستمرّ في باريس، فأين تتموقع فنيا بين الوطن الأصلي والوطن بالتبني، بمعنى حدود شراكة هذا اللون الملتزم ما بين الضفتين؟ كل الابداعات الهادفة والتي تعبّر عن صدق المتاعب مهما حوصرت فهي قادرة على اختراق الجغرافيا.. ووجودي بفرنسا ساعدني تقنيا على نشر انتاجي ضمن التكنولوجيا الحديثة المتوفرة هنا، إلى جانب أن باريس عرفت تاريخيا وحاضرا أنها مدينة الفن والرسم والفلاسفة ومختلف الابداعات.. إضافة الى وجود الجاليات العربية بمختلف تضاريسها، مما شكل نوعا من الثراء مكنني من " التمدد" فنيا. كما أشير الى دور بعض الجمعيات الفرنسية والمغاربية في احتضان مثل هذا الفن، فأول تسجيل لي ضمن المواصفات العصرية التي تتلاءم مع الجودة والتقنية الجيدة كانت تحت: " secours populaire" " غطاء الجمعية الفرنسية "النجدة الشعبية التي موّلت أوّل تسجيل وطبع كاسيت سنة لدعم 1980 المساجين السياسيين العرب، كما أن الاسطوانة الأولى انتجتها وموّلتها الجمعية الطبية الفرنسية الفلسطينية " Association Médicale franco-palestinienne"، وخصّصت مرابيح الاسطوانة لمساعدة الجرحى الفلسطينيين في لبنان سنة 1983 بعد حصار بيروت والاجتياح الصهيوني للبنان سنة 82 ، فبلدي تونس زرعت في عشق الفن الملتزم والوعي بهذا اللون، والجمهور النقابي، والمد الطلابي، ساهم في نشر ايقاعاتي رغم أنف السلطة وسطوتها.. وباريس مكنتي من إتمام المسيرة في فضاء من الحرية والأمان.. وبالتالي فأوتاري موزعة بين البلدين ونموّي الفني ترعرع بين وطنين.. الثورة التونسية في ثوبها الحالي هل تشكل الحلم الذي من أجله غنى "محمد بحر"؟ أم أنها لم تحقق ما كنت تصبو إليه نتيجة للخيبات المتتالية؟ أعتقد أن الثورة حققت جزءا من المطالب التي تغنيت بها وهي حرية التعبير، فبفضل انتفاضة الشباب والتراكم النضالي للشعب التونسي، أصبحنا نعبر عن آرائنا بدون خوف، غير أنه لا معنى لحرية إذا بقيت المطالب الأخرى غائبة كحق الشغل، والتوازن الجهوي، والعدالة الاجتماعية.. فلابد أن تتواصل الثورة من أجل تحقيق هذه المطالب التي كانت عنوان الثورة، وتبقى الحرية المكتسبة مهددة بدون تحقيق هذه المطالب المشروعة، وسأبقى أغني للعدل والمساواة والحرية، طالما بقي الواقع كما هو موشوما بالغبن والظلم، ذلك لأني أعتبر نفسي صوتا للمظلومين.. الثورة التونسية انطلقت شعبية وعفوية، غير أن ما يلاحظ أنها بقيت تراوح في مكانها، لأنه حسب تقديرنا لم يرافقها فكر حر ولا ثقافة واعية ولا اعلام هادف، بمعنى أن المثقفين والمبدعين ظلوا مغييبين عن المشهد، أو وقع اقصائهم عمدا، مما جعل هذه الثورة تتعثر، وتبقى مشدودة للوراء، فكيف ينظر "محمد بحر" الى المشهد العام في تونس؟ للأسف الثقافة بقيت مغيبة في المشهد الثوري التونسي، ما جعل هذه الثورة عرجاء، ويمكن القول أنه هناك نوعا من الاقصاء المقصود على حساب تضخم السياسي، الذي احتكر كل الفضاءات دون ان ينجز ما كانت تصبو له الثورة والثوار، فالسياسيون في تقديري غير واعون بدور الثقافة، وهي حقيقة مرة تسدعي التأمل والتوقف، من أجل تغيير هذا الفهم المسطح، فالأمم الراقية ازدهرت وتقدمت حين خصصت المكانة المتميزة للثقافة والعقل.. فطبيعي أن تتعثر الثورة التونسية، لأنها الآن تعيش اليتم الفكري والثقافي والابداعي، كما أرى أن حالة التهافت على المناصب، والجري وراء المكاسب جعل الثورة التونسية التي كانت مفخرة أمام العالم لم تنجز إلا القليل جدا، فالعديد من الملفات والقضايا التي من أجلها قامت الثورة بقيت كما كانت، مما يجعل الخيبات تتضاعف والآمال تتهاوى.. هل تعتبر الفن الملتزم مهّد الطريق لرحيل نظام الاستبداد، ومع ذلك ما يزال يعاني الغبن والخذلان؟ لا شك أن الفن الملتزم بمختلف صنوفه ساهم في المقاومة المدنية، وكان تحديّا ورفضا ايحائيا وصريحا لكل مظاهر الاستبداد وقد راكم الوعي الثوري الذي تأجج في الصدور طيلة سنوات القمع والظلم والحيف ليكون أحد العناصر المساهمة في النقمة الجماهيرية تجاه مظاهر الطبقية واللصوصية والنهب. وبالتالي فالفن الملتزم مثله مثل كل الابداعات الحرة شارك عبر التراكم في خلخلخة منظومة الاستبداد، وللتدليل على ذلك فإن الثورة التونسية استندت في انطلاقتها على إحدى أبيات الشاعر التونسي الحر ابو القاسم الشابي اذا الشعب يوما اراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر… وقد رددتها كل المدن والقرى من الجنوب الى الشمال. فقد كان الفن الملتزم من وجهة نظرنا معبأ بالأمل، ومستنفرا للفعل الذي يبشر بالانعتاق والتحرر والتحدي..ويبقى الفن الملتزم يعاني الغبن والخذلان، وهذا يعود الى منظومة عربية ثقافية مقصودة، تتبنى توضيع الذوق والاهتمام بصناعة الفراغ. القضية الفلسطينية كانت مركز اهتمام الفن الملتزم، وبركان الوجدان العربي. غير أنها في السنين الأخيرة نراها تراجعت الى الخلف، هل هو نوع من الاحباط واليأس نتيجة الانقسامات وحالة التية، أم نوعا من التسليم بالواقع المر؟ القضية الفلسطينية قضية عادلة وهي مركز اهتمام الفنانين الملتزمين العرب والأجانب، فكل الفنانين الأحرار في العالم يدعمون القضية ويناصرونها.. ومثل كل القضايا المصيرية والصعبة هنالك اختلافات سياسية حول التسيير وشكل المقاومة وطرق التصدي.. لكن الثابت هو أن الصراع التقليدي بين القوى الصهيونية والرجعية العربية والامبريالية من جهة، وبين قوى التحرّر والتقدم والاستقلال من جهة أخرى ما زالت مستمرة.. وأتفق معك أن السنين الأخيرة نشهد نوعا من تراجع القوى الثورية والتقدمية أمام المد الصهيوني الرجعي العالمي، وهذا ما تشهده حتى المجتمعات الأوروبية وكيفية زحف اليمين الصهيوني العنصري، ورغم كل هذه العوائق فالقدس هي عروس عروبتنا، وفلسطين تبقى عنوان إلهامنا والقلب النابض الذي لا ينطفئ في دمنا .. ما هي المحطات التي شكلت ترسبات في آخر البومك، وهل سنفونياتك تعتبر نسيجا لمجمل القضايا المؤرقة؟ لا أخفيك أن الأعوام القليلة الأخيرة بدأت أحسّ فيها بشيء من اليأس نتيجة انسداد الأفق، وواقع الاحباط ، وحالة الموت السياسي وعسكرة الحياة العامة، وتوحّش النظام البائد، لتأتي الثورة التونسية فتجدد دماء العطاء، وتفجّر ينابيع الإبداع. مما جعلني في ظرف أسبوع انجز العديد من الأغاني، ملحنا العديد من القصائد مثل " تالة "- " سيدي بوزيد " – " قرطاج "…مساندة للثورة، وشكلا من أشكال الدعم لشهداء وجرحى وثوّار تلك المدن التي رفضت الخنوع، وقدمت قرابين من أجل الحرية والكرامة.. —————————————- آخر البوم الفنان محمد بحر 1 – مقاومة / محمود درويش 2 / النخل يغني / شعر الطاهر الهمامي 3 / هي واقفة / مولدي فروج 4 / سيدي بوزيد / رضا الماجري 5 / قمودي علي سعيدان 6 / تالة / رضا الماجري 7 / ارحل / مولدي فروج 8 /الشام / سميح شقير 9 / نحب البلاد / الصغير اولاد احمد 10/ حالنا / مولدي فروج