الشابي شاعر كبير فعلا.. شاعر غيّر مجرى الأحداث الشعرية بديوان واحد..مثله كان مثل "بُودلير" الفرنسي صاحب "زهور الشرّ" و"رمبو" صاحب "المركبة السّكري".. لقد جاء الشابي الذي وجد القصيدة العربية على حالتها الكلاسيكية المعهودة ليبعث نفساجديدا في المعمار الشعري بكل مكوّناته.. وتظافرت جهوده في ذلك مع جهود محمد العريبي وعبد الرزاق كارباكة رغم التفاوت وخاصة مع الشاعر مصطفى خريّف صاحب "حوريّة الموْج" الشهيرة. كان الشابي شاعرا ثائرا.. ثائرا في رؤيته للحياة وفي تفسيره للظاهرة الوجودية وأيضا في تعامله مع القصيدة الشعرية التي حاول جهده تفعيلها والخروج بها ممّا تردّت فيه من تقوقع في دوائر التقليد والمحاكاة وحتى التحجّر، ولقد نجح الشابي في قسط كبير من ذلك. ولكن الشابي بثقافته الاسلامية العربية المهيمنة كان في حاجة الى توسيع آفاق التجربة بما يغذّي الهاجس الإبداعي لديه.. ووجد ضالّته في الشعر الفرنسي الذي ترجمه له بسخاء صديقه محمد الحليوي، فنهل ما أمكنه من تجربة "فيكتور هيغو" و"لامرتين" و"ألفريد دي ميسيه" و»ألفريد دي فينيي« وغيرهم.. ممّا فتح نوافذ التجربة الشعرية لدىه على بانوراما الإبداع القادم من بعيد وهذا لا ينقص من قيمة العمل الإبداعي لديه، إذ حافظ على خصوصية غير مألوفة وتفرّد ملموس رغم غوصه في فضاءات المدّ الشعري الغربي ولو عن طريق الترجمة، المهم أن قصيدة الشابي كانت فتحاجديدا في دنيا الشعر.. ولكن بمرور الزمن يحقّ لنا أن نتساءل عمّا بقي في البال والذاكرة من عطاءات الشابي الشعرية، مما لا شكّ فيه أن البريق الذي خطف الألباب لأول وهلة قد زال بمرور الوقت، وما كان يعتبر تجديدا وثورة في عهد الشابي أضحى اليوم في عيون المحدثين أمرا بديهيا وعاديا.. فهل انتهى الشابي إذن؟ لا نعتقد ذلك، ففي تجربة الشابي الشعرية ما بقي متّصلا بالوجدان الإنساني بكلّ اشتغالاته وكلّ روافده وكل مكوّناته، في شعر الشابي شعلة لا تنطفئ مهما تداول الليل والنهار.. فيه همّ إنساني وجوديّ مطلق لا يهتمّ بتداول الليل والنهار.. فيه اشراقات من عالم نوراني لا يضيء خارج جدران الروح والذات المشعلتيْن.. نقرأ قصائد الشابي اليوم فإذا بالكثير منها حافظ على رونقه وبريقه، وكأنّ أعاصير الزمن الرديء والمأزوم الذي نعيش لم توثر فيه أبدا. فكما صمدت دعوة "بودلير" للسّفر أمام جحافل الزّمن، وكذلك "بحيرة" لامرتين و"جسر ميرابو" قيوم أبولينار، فقد صمدت "صلوات في هيكل الحبّ" و"الصّباح الجديد" و"أغنية الجبّار" للشابي. ولكنّ في تونس اليوم شعراء بحجم الغابة.. والشابي مهما عظمت منزلته الشعرية يظل ّ شجرة واحدة متوحّدة.. والشجرة مهما كبرت لا تحجب الغابة.. شعراء اليوم يطرقون أبوابا غير مألوفة.. هم يسبحون في بحار مزيدة، فيها التراكمات السياسية والاجتماعية بالايديولوجية والإنسانية وغيرها. أما الشابي فلم يبق من تجربته غير الرافد الانساني وهذا كثير.. ولكنه ليس كافيا لإلغاء ما جاء بعده بمجرّد ذكر إسمه أو العودة الى »أغاني الحياة«. أما من ناحية المعمار الفني للقصيدة الحديثة في تونس، فهناك فيسفساء من الأشكال والتجارب المجدّدة.. قصيدة التفعيلة (الشعر الحرّ)، في غير العمودي والحرّ (في أواخر الستينات وأوائل السبعينات)، قصيدة النثر، القصيدة العمودية الجديدة ذات المنحى الكلاسيكي الجديد وغير ذلك من الأشكال. فأين الشابي من هذا ؟ طبعا هو لم يعش عصر هؤلاء حتى يأتي بما جاؤوا به، ولكن يهمنا أن نقول إنّ الشابي ظاهرة جديرة بالاحتفاء حتى في يومنا هذا.. ولكن أن نعتبرها الظاهرة الوحيدة والأعظم، فهذا ما لا يقبله العقل والمنطق.. بقي من الشابي الكثير.. بقيت الاشتغالات الانسانية ومشاعر الغربة والحنين والوعي بالموت، ولكن جاء شعراء اليوم ليضيفوا الى السجلّ معاني أخرى وإرهاصات أخرى تجعل تقديرنا لنضالهم، الوجودي والانساني والإبداعي الملتزم أمرا متحتّما وضروريا.. آن الأوان لترك الغابة تنعم بقليل ممّا نالته الشجرة الوحيدة من حظوة وعناية ومتابعة حتى تفرز شعراء بحجم المرحلة حقا.