من أب فلسطينيّ، وأم لبنانية، ومن طقوس ثقافية في بيروت والكويت وعمان، ومن جراحات موعودة بالبُرء، ومن برد شيكاغو، وُلدت حرارة الشاعرة منيرة مصباح. يمكن تلخيص مسيرة منيرة بإضاءاتها التي رسمتها من خلال ثلاثة مجاميع شعرية هي : «سيدة البراعم» و»خضاب الندى» و»تجليات ماسة البرهة». 2 حين نسمع كلمة «شاعرة»، تتبدى للرجال صورة امرأة متهمة بالحلم وقادمة من زمن غير صالح للشعر. وحين نضيف : «فلسطينية» ينتبه الناس الى جرح بليغ قادر على النزف أمام عرب لم يستطيعوا الآن غير الفرجة وتقدير حجم الألم متمثلين بالقول المأثور : العين بصيرة واليد قصيرة. وحين نستمع الى شاعرة أصيلة حيفا وشاركت في أكثر من مهرجان شعري عربي، وتقيم في شيكاغو حيث تدرّس اللغة العربية في جامعتها، ولم تخرج منذ عقد ونصف العقد من هذا البرد الثقافي الى حرارة الوطن العربي، نرى انها ما تزال على قيد الذاكرة الشعرية تقيم جسرا ثقافيا من خلال اصداراتها في القاهرةوبيروت، نشعر بواجب التحية لهذه الشاعرة التي تجاهر بجرحها ولا تتاجر، وتصرخ في همس أنيق، وتتفاعل في اي مكان يتيحه الزمان العربي القادر على انجاب الأبناء دون أن يوفر لهم ما يحلمون به من حياة حرّة آمنة. 3 هل قدر الشاعر العربي الفلسطيني ان يكتفي في الاقامة في بيت يؤثثه بالحنين، ويحشر هذا البيت في ديوان من الشعر، فيؤسس على رأي محمود درويش وطنا في اللغة؟ لأن له وطنا محلوما به «أيا وطنا لم أجد ختمه في جواز السفر». واذا كانت السماء هي تلفزيون من لا تلفزيون له، فإن الخيال يذهب بمنيرة مصباح الى «غيمة بلا وطن» حيث تقول : سقطت قرب روحي غيمة... / سقطت غيمتان قرب جبهتي / اصطف مزيد من المطر / دثّرني بشيء من النسيان../ ..... / سأسرج الألحان في بهو قلبي / لأوقظ نبض روحي / وأغلق كؤوس الألم / وأحفظ دربي ليمضي كل هذا الشجن.../ بلا وطن. لطالما كان المستمع العربي غير الفلسطيني، يطالب بالفرجة على الجرح الفلسطيني، ويتأزم في صمت، في حياء، ويطالب هذا المستمع ان يستمتع بالجرح الفلسطيني في لغة الشعر، وهو مطلب يكاد يقصي الشاعر الفلسطيني من ذاتيته وخصوصيته ويحوّله الى «مندوب جرح لا يساوم» او «سفير ألم لغوي»، لذلك كانت الشاعر تتسلل بذاتها الى صوتها الخاص وتعلنه بهذه الشفافية. على رخام الحنين، / يتسلل ذلك الصوت القادم من رحم المستقبل / لا شيء غير ذبذبات ناقوس الألم العتيق / حيث ترقُد الموسيقى ببراءة نادرة / على رخام الحنين / هنا حيث لا أحد رفقة أحد / أثابر على نحت تمثال أرقي / أضيف اليه ما يكفي / من سأم الصلصال / ..... / أتعلّم كيف أصغي لنفسي / واليد حيرى... لا تمسك بشيء. 4 الشاعرة تمتلك غربتها وتراها في كل مكان خارج الوطن، وتسعى للحفر في الوجوه المطموسة التي نأمل ان لا تشبهها وجوه الهنود الحمر «والذين كانوا يعبرون بحيرتهم ميشيغن»، ونأمل فقط أن لا تشبه بحيرة ميشيغن بحيرة طبرية الفلسطينية : الهنود الحمر ابتنوا من نجومك أعشاشهم / وانتهوا عند مفترق البحيرة / يبكون أطيارهم / الهنود البريون، أبصرت آثارهم في الطريق / شواهدهم وهي تُمحى / ليسكنها الغزاة السائحون. ومع الغزاة السائحين تختفي آثار سكان البلاد الأصليين: غادر كل الهنود الأليفين / مثل حصان قتيل / صار ما خلفهم حجرا للذاكرة / شرفة تطل على الجهات الاربع / قوارب منقوشة... على الماء. إن «مشيغن» هي التي ألهمت الشاعرة في غربتها بهذه الرؤية : أرى المركب يأتي من أقصى التاريخ / يمضي في أزمنة لم أشهدها / فأطل على وطني. 5 هذه شاعرة عربية تحمل ايقاعاتها من فلسطين ولبنان والكويت، وتقيم في الولاياتالمتحدةالأمريكية، لا تحلم بأن تغير العالم بالشعر، ولا ترغب في شيء آخر غير ان تصل الى ايقاعها الخاص عبر الشعر الذي هو نور سائل وصائت : في الظل نور يسيل مناديا : / وقت الشعر هو اضاءات ذواتنا / هو الحب الغائب / هو الحب الصامت / هو جذور مزروعة فوق موج اللغات / هو بذور الاحرف وأغصان الكلمات. لكأن الشعر يمضي الى مدينة اسمها على رأي الشاعر «سركون بولص» : «مدينة أين». غير ان الاكيد ان الشاعرة منيرة مصباح ترحل من صوتها الى حيفا... بحثا عن خيط واصل بفلسطين.