بيروت دمشق عبد الرؤوف المقدمي في العاصمتين العريقتين، بيروتودمشق يصادفك العراقيون في كل مكان: في النزل والفنادق، في المقاهي والدكاكين، في الأسواق القديمة والحديثة، في مقامات «قديسي» الشيعة وكأن النجف وكربلاء لا تكفيان «للحج».. وسأجازف وأقول ان لقاء العراقي، لقاء المواطن العربي به، تغيّر كثيرا، تتحوّل التلقائية القديمة وأنت تحكي معه إلى ريبة، ويتحوّل الاندفاع إلى حركة محسوبة، لكن الأخطر من ذلك كلّه هو عندما يتحوّل تصديق ما يقال إلى شكّ كبير. وفي العاصمتين الشهيرتين، يصادفك منهم الأستاذ والمهندس ورجل الأعمال والتاجر والمهرب والعامل البسيط، وتلتقي بالكردي والعربي والاشوري، وبالشيعي (وهم شيع) وبالسني، وبمن هو في منزلة بين منزلتين. لكن أهم من يمكن لك أن تلتقيهم خصوصا إذا كنت صحفيا فهم هم أولئك الذين مازالوا يعكسون تلك الصورة المشعة القديمة لذلك العراقي الأبيّ الشامخ، الذي يموت قهرا وأملا. قهرا من الاحتلال وأملا في اليوم الذي يرى فيه وطنه محررا. وبالتأكيد هناك صنف آخر يثير فيك كل فضولك الصحفي، من الضباط الكبار للجيش وللمخابرات الذين غادروا العراق إما من أجل مهام أخرى لا أحد يعلم طبيعتها بالضبط. وإما هربا من ملاحقة تنتهي بالموت وهو ما حدث للكثير منهم، أو هربا من ابتزاز قوى الاحتلال والسلطة الجديدة التي تغريهم بالعمل معها، مقابل تأمين الحياة والرزق لهم. والصنف الأول والثاني هو الذي يمتلك الجزء الكبير من الحقائق الغائبة عن الناس، حتى عن ناس العراق. لذلك كان طبيعيا أن تدور الأسئلة معهم ويتفرع الحديث لحقيقة ما يجري أمنيا للعراق وفي العراق خصوصا بعد أن تصاعدت المقاومة والتفجيرات والاغتيالات المفهومة والعشوائية، وهو ما يضع سؤالا كبيرا يقول: من يقتل من في العراق ولأي غرض سواء كان الغرض آنيا أو استراتيجيا؟ ولأن ذلك كلّه تزامن مع شخصية اسطورية اسمها أبو مصعب الزرقاوي. سألت «الشروق» عنه، عن حقيقته، عن دخوله للعراق، عن حقيقة علاقته بنظام صدام حسين؟ أحد الكبار من هؤلاء قال ل»الشروق» ان المخابرات العراقية أيام صدام حسين لم تكن تعرف أصلا من هو أبو مصعب الزرقاوي، ولم يكن يهمها في شيء اسم القاعدة، فقد كانت المخابرات وقتها متفرغة لعملين أساسيين أخذ كلّ وقتها والتهم كلّ اهتمامها: * أولا تأمين الجبهة الداخلية بشكل حديدي في سنوات الحصار القاتل، وخلال تلك السنوات اكتشفت من المؤامرات ما لا يحصى ولا يعدّ، بل آنه تم القاء القبض وقتها على ديبلوماسي بولوني أدخل أجهزة تجسّس متطورة رغم ان العلاقات كانت عادية بين العراق وبولونيا. * ثانيا: مراقبة بعض دول الجوار التي تتواجد فيها قوات عسكرية أمريكية وفرق أمنية والتي كان يتسلل منها «مخرّبون» عقّدوا الوضع الأمني في العراق أيما تعقيد. لذلك، يقول المتحدث، كان اهتمام الجهاز بالقاعدة لا يتجاوز اهتمام ودهشة أي مواطن عادي عربي أو عالمي بهذه الحركة (أو التنظيم) التي استطاعت بلا مقدمات ووسط ذهول العالم كلّه ضرب العمق الأمريكي المحصّن مثل أعتى القلاع. كما ان النظام السياسي العراقي كان يعلم بأنه على خلاف ايديولوجي تام مع هؤلاء خصوصا انه كان يراهن على علاقات مع الهند (مشكلة كشمير) وكانت القاعدة ضدّ كل من يقيم علاقة مع الهند بسبب كشمير، وخصوصا انه كان يراهن أيضا على علاقة حيوية جدا مع روسيا (مشكلة الشيشان) وهو أيضا ما لا ترضاه القاعدة. ثم وبالاضافة إلى هذا كلّه فقد كان النظام السياسي يعرف بأنه متهم بالارهاب أمريكيا، وان الادارة الأمريكية خصوصا بعد 11 9 ستجدها فرصة سانحة للربط بينه وبين الارهاب، خصوصا ان نية الاطاحة بالنظام كانت قناعة ثابتة لدى القادة منذ أوائل التسعينات سواء كان ذلك على طريق الغزو المباشر أو الانقلاب الداخلي العسكري أو الثورة والفوضى. ويتدخل متحدث آخر ليقول (وهو ضابط كبير جدا)، فوجئنا بين يوم وليلة بحديث عن شخص أردني الأصل اسمه الحركي أبو مصعب الزرقاوي، دخل العراق للتداوي بعد معركة جرح خلالها (أين؟ وكيف؟ ومتى؟) هذا ما لم تقله الدوائر التي روّجت للقصّة. ولأن هذه الدوائر على قدر كبير من غباء غير مفهوم، واصلت تسريبات إعلامية تقول أنه دخل المنطقة الكردية (التي لم تكن تحت سيطرتنا) وذلك للتطبب من جهة وللتنسيق مع تنظيمات اسلامية كردية موضوعة على لائحة الارهاب، ثم زعموا أننا اتصلنا بهذه التنظيمات وهي التي تكفّر نظام البعث وتحمل ضدّه السلاح أيضا، وأننا أرسلنا طبيبا جراحا لجلبه إلى بغداد والقيام بعملية جراحية له وربط علاقة به. هذه هي بالضبط قصّة شبح لم نعرفه ونحن من يفترض أن نعرف كل شيء. وواصل: إذا كان هذا الشخص موجود الآن في العراق، فأين هو، والحقائق تقول التالي: * إن العراق على عكس أفغانستان أرض صحراوية منبسطة ومكشوفة. لذلك لا يمكن له ولأنصاره وجود سند كما يتوفر الآن لزعماء القاعدة في أفغانستان. * إن المنطقة الشيعية العراقية لا يمكن أبدا أن تكون ملجأ لهذا الشبح لأن أول من سيقتله أو يلقي القبض عليه هم الشيعة مهما كانت توجهاتهم ومراجعهم ووطنيتهم أو عمالتهم. * إن المنطقة السنية العراقية ليست كلها مسرحا للمقاومة، ومهما وجدت فيها من تنظيمات مقاومة، فإن أي ضيف عربي يدخل المنطقة يعلم به حالا زعماء العشائر. ولا أحد من هؤلاء الزعماء سواء كان مع الاحتلال أو ضدّه يجد نفعا في استضافة الزرقاوي. * ان العراق مرجل للعملاء والجواسيس من الأمريكان والحلفاء ومن ميليشيات الأحزاب التي شاركت في مجلس الحكم وتشارك الآن في السلطة المؤقتة. وإذا كان كل رموز النظام وخاصة صدام حسين الذي يعرف العراق مترا مترا، قد تم القاء القبض عليهم بصورة هي من سهولة لم يتصورها أحد، فكيف يعجزون عن المسك بالزرقاوي الذي يفترض أنه وافد جديد على العراق. وواصل نحن رجال أمن سياسي لا يختزل عملنا في مراقبة الناس بل في تحليل ما يصدر عنهم، وما صدر منذ يوم واحد عن الرئيس بوش (إن كنت شاهدت تصريحه طبعا) مضحك حقا، فبعد قصّة الزرقاوي التي شككت فيها عدة دوائر، ها هو يقول ان ضباطا من المخابرات العراقية قابلوا أسامة بن لادن في السودان سنة 1996 . وفي الأمن لا يؤخذ الكلام جزافا بل لابد من دليل لأن عدم توفر الدليل لا يعرقل فقط العمل الأمني بل يدخلك في دائرة تمويه وتضليل قد تكون صادرة عن طرف يريد أن يتلاعب بك، طبعا ليس للتسلّي بك بل لتحقيق غرض آخر هو يخطّط إليه. ويقول: كلّ الحقائق غائبة في العراق، وكلّ أشكال الأفلام الهندية موجودة، ومن الصعب، الصعب، الصعب جدا أن يستقر العراق لا الآن ولا في الغد، فقد هدّمت دولة عريقة، وجاء احتلال، ووفد أناس يريدون الحكم ليس بلا شرعية فقط، بل بلا خبرة، وتخطط عدة أطراف لتتقاتل خصوصا ان الكعكة ستقسّم (ضحك وقال لكنها كعكة مرّة بل مرّة جدّا). هذا إضافة إلى مصالح الدول المجاورة وأولها إيران، والمشكلة اننا نعلم يقينا (لأننا لازلنا نخترق الوضع هناك ولنا مصادرنا وزملاؤنا وأناس على علاقة بنا لا يعرفها طرف) بأن النظام الذي تريد أن تشكله أمريكا في العراق عليه وهذا شرط لا رجعة فيه أن يكون معاديا أولا لايران حتى وان كان الذي سيحكم شيعيا. هذا هو المطلوب. ولا تستغرب من الآن أن تحصل قريبا أزمة بين حكومة علاوي وايران، وتصور ما يمكن أن يترتب عنها. وهذا حديث آخر يطول. وعدت أسأل لماذا قلتم لي أن من مصلحة العراقيين بقاء بوش، أي إعادة انتخاب الرجل الذي احتل بلدكم وشرّدكم وحرمكم من وظائفكم العليا، قال أحدهم: لكي يتواصل منطق الصراع كما هو عليه الآن، فتكون نتائجه بدورها منطقية. ثم ان هذا الرجل وإدارته لم يسبق للعالم أن رأى لهما مثيلا في التخبط وفي عدم القدرة على ادارة الأزمات. لقد سمعنا كلاما عنه من أجهزة مخابرات غربية يقتل أسفا وضحكا وتندّرا. هذا من جهة ومن جهة أخرى إذا ما جاءت إدارة جديدة سوف تحاول أن تصلح بعض الأخطاء وهو ما سيعيد الأمل لبعض الواهمين والمترددين و»التعبانين» من شعبنا مما يؤثر على المقاومة بلا شك ولوالي حين. ثم قال: لن أخفيك أنني سمعت جملة أنه من مصلحتنا بقاء بوش من مستشار لبريمر شخصيا، لكنه قالها قاصدا عكس كلّ المقاصد التي قلتها لك، واستنتجتها حتى خلال الجلوس معه. وهذا أيضا حديث آخر يطول!