صدر حديثا عن المركز الوطني للترجمة بتونس «معجم تحليل الخطاب» الذي أشرف على انجازه الباحثان باتريك شاردو ودومنيك منغينو وقام بترجمته الأستاذان عبد القادر المهيري وحمادي صمود. وهذا المعجم الذي يقع في أكثر من ستمائة صفحة هو من قبيل الموسوعات الكبرى في غزارة مادته، وتعدد مداخله، وانفتاحه على حقول معرفية شتى، وقد تداول على تأليف فصوله أكثر من ثلاثين باحثا ينتمون إلى اختصاصات مختلفة،أثبتوا مصطلحاته، وانعطفوا عليها بالدراسة والنظر والتحليل. أما موضوع هذا المعجم ومدار اهتمامه فهو فن تحليل الخطاب. وهذا الفن كما أوضح الباحثان شاردو ومنغينو حديث العهد، قد بدأت تباشيره الأولى تتلامح منذ الستينات مضيفين «أنه لم ينشأ داخل اللغة عن فعل مؤسس ولكنه انبثق من التقاء تيارات مختلفة تدور كلها على دراسة الإنجازات المتجاوزة للجملة، شفويا كان الإنجاز أو مكتوبا قصد إدراك دلالاتها الاجتماعية». أما مادة المعجم فهي تتكون من طائفتين من المصطلحات، الطائفة الأولى تضم المصطلحات التي ظهرت في العقود الأخيرة في أعمال موضوعها الخطاب، والطائفة الثانية تضم المصطلحات التي تحدرت من فنون وعلوم مجاورة، ولكنها ذات صلة وثقى بفن تحليل الخطاب. وجليّ أن هذا المعجم لا يمكن أن يستسلم للترجمة بيسر وسماحة فهو يمتح مادته من علوم عديدة بعضها لم يستقر في ذاكرة ثقافتنا العربية استقرارا مطمئنا. وقد أبرز المترجمان بعض الصعوبات التي واجهاها وهما يتصديان لترجمته، ففضلا عن تعدد أساليب الكتابة، إذ تداول، كما أسلفنا، على تحرير مادته أكثر من ثلاثين باحثا، وما نتج عن هذا التعدد من اختلاف في تحديد المفاهيم، وضبط المصطلحات واجه المترجمان صعوبة في نقل كل المعاني التي تشع بها الكثير من المصطلحات الى اللغة العربية. فالفكرة الأساسية في المصطلح، كما يقول بعض الباحثين، هي أن يكون أداة تجميع لطائفة من المعلومات أو الصفات النوعية أو الخصائص في أصغر حيز لغوي دالّ هو اللفظة بحيث تقوم اللفظة بديلا للفكر فيها فإذا قصرت الترجمة عن أداء تلك المعلومات والصفات والخصائص فقد المصطلح قيمته المعرفية. لهذا سعى المترجمان الى توظيف إمكانات لغتنا لنقل معاني المصطلحات والمحافظة على طاقاتها المفهومية، وربما احتاجا، إذا قصر اللفظ الواحد عن أداء معاني المصطلح، الى استخدام عبارات مركبة خاصة عندما يتعلق الأمر بترجمة المصطلحات التي صيغت من أصلين يونانيين نحتت منهما كلمات ذات معان دقيقة، بل إنّ المترجمين قد اضطرا، في بعض الأحيان، الى جمع مصادر لم تتمحض للاسميّة وذلك لتأدية المعنى بأكثر ما يمكن من أمانة. وقد كان نتيجة كل ذلك صدور هذا المعجم في لغة واضحة ومكتنزة ومكثفة تجنبت، عن وعي عامد، كل تعقيد في التركيب، والتباس في العبارة ليكون هذا المعجم كما أراده أصحابه «أداة صالحة لكل من يقوم عملهم على الانتاجات اللفظية من منظور تحليل الخطاب». إنّ المتأمل في مادة الكتاب لا بد أن يلفت انتباهه العدد الكبير من المصطلحات التي قام بحدها. وهذه المصطلحات تبدو، للوهلة الأولى، فوضى لا ينتظمها سلك جامع، غير أن قراءة متأنية لمختلف فصول المعجم تكشف عن العلائق التي تجمع بين مختلف المصطلحات جمع تآلف وانسجام، فهي، على اختلافها، موصولة بفنّ تحليل الخطاب، مرتبطة ببعض مسائله القريبة أو البعيدة. والواقع أن هذا المعجم لا يكتفي بوضع حدود المصطلح بل إنه يحفر في طبقاته ويستنفر ذاكرته ويجمع مختلف دلالاته وربما تأمل تاريخه، وأشار إلى مراحل تطوره حتى لكأن كل فصل من فصول الكتاب عبارة عن دراسة معمقة لظاهرة من ظواهر الخطاب. وقد التفت المعجم إلى «مصطلحات» لا يكترث بها عادة، وربما عدت غير ذات قيمة مثل القوسين Les parentheses، والمزدوجين أو الظفرين Les guillemets والنقطة، والإمضاء أو التوقيع La signature فتبسط في تحليل وظائفها ودراسة دلالاتها، معرجا على ابعادها البلاغية وأدوارها الطباعية. إن قيمة هذا المعجم، بعد تعريبه، لا تكمن في نقل عدد كبير من الدراسات التي دارت حول تحليل الخطاب إلى لغتنا فحسب، وإنما تكمن أيضا في اقتراح ترجمة لحشد هائل من المصطلحات الفرنسية والانقليزية إلى اللسان العربي. وإذا علمنا أن هذا الاقتراح صادر عن أستاذين مختصين في الدراسات اللغوية والبلاغية، وأصدرا الكثير من الدراسات الأكاديمية باللغتين العربية والفرنسية، وأسهما إسهاما جليا في تطوير الخطاب النقدي في بلادنا أدركنا رجاحة هذا الاقتراح وربما وجاهته.