حلقات يكتبها: عبد الرؤوف المقدمي كل من يزور الصين يعود مذهولا، سكران، مترنّحا من الجمال ومن بدايات المعجزة، ذلك أن صعقة البداية قد تكون أشدّ من نهايات الاكتمال. وأتذكر أنني لما عدت من الصين منذ سنتين عدت مترنحا لذات الأسباب، لكني أتذكر أن المقال الثاني حول حلقات كتبتها عن الصين، كان عنوانه خطوة أولى عملاقة لكن الطريق مازالت طويلة، وكنت أقصد أنها مازالت كذلك أي الخطوة اقتصاديا، أما عن الجمال والعراقة فقد اكتملت بشكل أكثر من مذهل لدرجة جعلت كيسنجر يقول من ضمن ما قال حول الصين لقد خفنا عن الرئيس نيكسون هناك في زيارته لذلك البلد الرائع، فقد شعرنا أنه نسي بأننا نتفاوض مع عدو. لكن كيسنجر ذاته يقول لقد شعرت وأنا أدخل إلى معبد السماء بأنني طفل صغير. وما يذكر بهذا كله هو شبه تزامن زيارة الرئيس بشار الأسد للصين وتجديد موقف بلاده من الصين الواحدة الموحدة ومن ضمنها تايوان، مع زيارة كوندليزا رايس التي قالت نفس الكلام ربما للمرة الأولى. فما أعلمه أيضا أنه كلما احتفلت الصين بعيدها الوطني يصدر البيت الأبيض موقفا داعما لتايوان. ومع ذلك تبقى العلاقة بين البلدين معقدة جدا وعصية جدا. من ذلك ان الولاياتالمتحدةالأمريكية تعيش أيضا على سنود قروض صينية تبلغ 150 مليار دولار لكن الصين تعيش أيضا على استثمارات أمريكية لا تحصى ولا تعدّ. هذه إشارة أما الاشارة الثانية، فتخص ما سبق زيارة كوندا لبكين (انظر في هذا الصدد عدد 29 جوان 2004) للنيويورك تايمز حيث جاء في مقال لها: إن واشنطن ألقت بقنبلة كلامية فبين طيات تقرير البنتاغون المكون من 24 صفحة عن استعداد جيش الصين تكهن مخططو الدفاع الأمريكي، انه في حالة وقوع حرب حول المضيق (تايوان) فإن تايوان تسعى لضرب أهداف ذات أهمية قصوى مثل السد الثلاثي المهيب. شتائم لا تتصوّر وواصلت المجلة وكما هو متوقع فإن هذه التكهنات لم تجد صدى حسنا في بيكين، فقد قال الجنرال الصيني «ليو يولن» لو تعرض السد لهجوم فإن الرد الصيني سوف يخسف السماء. وأضاف أيضا: إن هذا التهديد سيكون له عكس النتائج المرجوة، بل وكما قالت المجلة الأمريكية، إضافة إلى ذلك وصف أمريكا بأنها حرفيا عاهرة تتظاهر بأنها رجل محترم وعن محلّل أمني تايواني نقلت المجلة قوله: ترى السلطات في بيكين ان حكومة «تشين» تسعى بشكل مستمر لاستقلال تايوان، من ذلك أنه يمارس منذ فترة ضغوطا للحصول على ميزانية خاصة تبلغ 18.2 بليون دولار لشراء أسلحة أمريكية ولو وافق البرلمان التايواني على الصفقة فستكون هذه أكبر عملية لشراء أسلحة أمريكية منذ عقد. ويواصل: أنا أزور الصين سنويا منذ 25 سنة ولم أعهد عبر هذه المرة قلقا حول تايوان بالقدر الذي أشعر به الآن. وتكشف المجلة عن تطورات جديدة في الملف، فتقول: في الأسبوع الماضي توجه وفد عسكري تايواني رفيع المستوى إلى واشنطن لمناقشة رزمة الأسلحة الأمريكية التي عرضها الرئيس الأمريكي بوش سنة 2001 . وتشمل 6 أنظمة باترويت متطورة وثماني غواصات ديزل، ومضادة للغواصات، وطائرات من نوع أورويون 12 .. وما يزعج بيكين في الحقيقة هو تعمّق هذه العلاقات (على قدمها) فهذه السنة ستنضم القوات التايوانية ولأول مرة منذ 3 عقود للتمارين العسكرية التي تقودها الولاياتالمتحدة في الجانب الغربي من المحيط الهادئ. وعندما يزور الجنرال الأمريكي جون آليان تايوان هذا الصيف فإنه سيكون أول جنرال عامل في البنتاغون يطأ الجزيرة منذ قطع واشنطن علاقاتها الديبلوماسية بتايوان سنة 1979 . وبعد استفاضة كبيرة في حقائق مثيرة أخرى، تكشف أنه يحتمل أن تقوم واشنطن بانشاء «ملحق دفاعي» يشرف عليه أمريكيون في تايوان.. ومن المؤكد أنه سيكون لبيكين ردّ فعل على ذلك. والمثير زيادة على هذا هو عودة الاعلام الأمريكي للحديث حول الحرية في «هونغ كونغ» وحقوق الانسان فيها، وحركة التمرّد التي بدأت تظهر هناك. وغير هذا كثير وكثير ومعقّد ويطول الحديث حوله. لكن الذي يهمنا وسط كل هذا هو العالم العربي، الذي يحتاج مفكروه وسياسيوه إلى قطب جديد، يقتاتون من خلال تناقضه مع القطب الوحش الآخر الكاسر والوحيد الأوحد، أي الولاياتالمتحدة. وكأن الحلّ كامن هنا. وكأنه لا بديل إلا هذا الكسل الواضح وسط هذه التأملات تذكرت أنني مازلت محتفظا بعدد أكتوبر 2003 لمجلة الصين اليوم، الذي احتوى على حوار مع سفير الجامعة العربية للصين تحت عنوان: توقعوا إعلان المنتدى العربي الصيني قريبا الذي أصدره مجلس الجامعة في مارس 2000 (لاحظ أن كلمة توقعوا جاءت بعد 3 سنوات من القرار التاريخي) ولا أعلم إلى اليوم هل صدق التوقع أم بقي مجرد نبوءة تنتظر من يؤمن بها. وهذا المنتدى حسب قول سعادة السفير جاء ليكون ساحة عربية صينية لتلاقح الأفكار وتبادل الرؤى (إلى آخره من الجمل الطنانة). أما العدد الأخير لمجلة الصين اليوم فجاءت افتتاحيتها تحت عنوان: السلام في الشرق الأوسط ومن أهم ما جاء فيها بلغة منتقاة: * إن الصين حريصة على السلام في المنطقة الملتهبة لذلك أوفدت مبعوثها الخاص للمنطقة «السفير وانغ شي جين» في جولة شملت فلسطين والأردن وسوريا. * أوضح المبعوث أن الصين حكومة وشعبا (طبعا) تشعر بالقلق تجاه ما يجري. * محادثات السلام + قرارات الأممالمتحدة ذات الصلة + خارطة الطريق هي الحل. وجمل أخرى صالحة لكلّ زمان ومكان. لا رهان على الضعيف والمقصود من كل هذا أن اللعبة بين الطرفين معقّدة، وان الصين لا تتعامل مع مصالحها إلا بمنطق براغماتي والدليل أنها تساهم بشكل ما في بناء جدار شارون وأنها حتى في القضية الكورية الشمالية تقيس مواقفها بحجم بيض النّمل، ولا يذهبن في ظن القارئ ان استقبالها قبل أسابيع للرئيس الكوري الشمالي جاء كرما وتفضلا، بل حسابا ومعيارا ربما لما يتم في تايوان وبيكين وأمور أخرى نجهلها والصين بلد صاعد واعد عليه أن يؤمّن لقمة حوالي 1.3 مليار من البشر وليس أن يتبرع على طرف ضعيف لمواقف تاريخية، أو أن يحارب من أجله، وهذا حقها كدولة بلا أدنى شك ولا جدال. وليس في ما قلنا نقدا للصين بل لأوضاعنا نحن كعرب لن ينجينا إلا الوعي الحقيقي بأن وقت اهدار الفرص، والتسليم بأن الأماني حقائق قد ولى وانتهى. وأن السعي الدؤوب لقيام تجمّع عربي حقيقي قد حان وإن حان منذ قرون والصين بلا تأكيد بلد صديق لكن هل بإمكانه مثلا فرض القرار 242، أو تفعيل القرار الأخير لمحكمة لاهاي، بل حتى الضغط مجرد الضغط على اسرائيل. بل وعلى افتراض أن الصين أصبحت من القطب الدولي الآخر، وتفوقت على أمريكا، ووجدت عالما عربيا على هذه الشاكلة، كيف ستتصرف معه وهي تحتاج (اليوم) تقريبا إلى نصف بترول العالم؟ وإلى كل أسواق العالم التي تتدفّق عليها سلع الصين ومن هذه الأسواق العربية التي لا يقدر بعضها حتى على منافسة غانا أو السينغال. وإذا كانت للصداقة شروط بين الذوات البشرية، فكيف تكون تلك الشروط بين الدول.