تخلّص الحزب الحاكم من صفة الاشتراكية، وغيّر الحزب الشيوعي تسميته كليا، وظهر هيكل لحزب ليبرالي، وعدّلت أحزاب أخرى صفتها وهي خجولة ومرتبكة في فكرها وإيديولوجيتها. وعمّ العالم اقتصاد السوق وبدأت العولمة تكتسح، وظهرت نظرية نهاية التاريخ بعد ان سقط جدار برلين بكل رمزيته المسلّحة سياسيا وإيديولوجيا. واختار اتحاد الشغل المنافس التاريخي، ان يتحالف بكل وضوح مع التحوّل وأن يفضّ ارتباطه بالأحزاب وأن يتعامل معها، ومع الجمعيات الوطنية المؤثّرة تعاملا عاديا. وتم استنفار المرأة للعمل الوطني والسياسي حتى تدافع عن مكاسبها، وتحافظ على حقوقها أمام هجمة التطرّف. وسقط اليسار في الجامعة بالضربة القاضية. ونفر الشباب والمثقفون من العمل السري، ومن التنظيمات «الليلية» وجدّدت منظمة طلبة التجمّع ثوبها وقامت بعمل شبابي جبّار ونضالي مثمر. أما الشعب، وهو الفيصل والحكم فقد إنكبّ على كل تلك الفرص التي تمنحه تطوير حياته المادية، وتكسبه امتيازات للتقدم والرخاء، مع تفويض تام منه لطبقته السياسية ونخبه لتفعل ما تراه صالحا، وميل منه الى رجل التحوّل والى حزب التغيير الذي انتفخ في عدد منخرطيه بدرجة مذهلة حقا. وعندما تغيّر المشهد كليا تغيّرت بالضرورة لغة الأرقام والحسابات السياسية. وظهر ان التنافس إن هو حافظ على شكله القديم فإن الغلبة والفوز ستكون لصالح التجمع الدستوري الديمقراطي. هذا ما يقوله الواقع، ولكن في هذا الواقع، يوجد تناقض كلي سواء مع أمل التعددية وتمثيلية كل الأطراف، أو مع منطق العصر وتبشيره بالديمقراطية. انه المأزق. مأزق كان يحتاج ليس الى عبقرية الرئيس بن علي فقط، بل وأيضا الى صدقة وإيمانه العميق بالديمقراطية وحقوق الانسان، والى قوّته ومصداقيته وحزمه في مواجهة المأزق وأيضا مواجهة قوى الجذب الى الوراء، ترى ان السياسة تنافس وصراع، لا وفاق وتأقلم مع متغيّرات وأن احزاب المعارضة الضعيفة عليها ان تتدبّر أمرها وأن تحسم أوضاعها وأن تهتمّ بشأنها من غير مساعدة من الطرف الرسمي، ومن غير هبات حتى في مستوى نصوص القانون. لكن الرئيس رفض هذا المنطق، بكل المعاني السياسية والأخلاقية ولم ينس يوما أنه رئيس كل التونسيين وأنه على العهد والوعد ماضيا في تكريس التعددية، وفي دعم الديمقراطية وفي تثبيت حقوق الانسان بكل معانيها فلا مجال للتراجع، ولا مكان لاستدعاء الماضي، وأيضا لا استسلام أمام واقع يتناقض مع أمل وأمنيات. وعلى الرغم من هذه الحقائق أشاع بعض المكابرين، وروّج بعض «العميان» ان الأوضاع في تونس تتراجع بينما هي بوضوح كانت تتقدّم أولا وأخيرا انطلاقا من إرادة رئاسية منحت أحزاب المعارضة التواجد لأول مرة في تاريخ تونس تحت قبة البرلمان. وقد تطوّرت في نسبتها الى 25٪ خلال التشريعية الفارطة، وكثّف الرئيس من لقاءاته برموز هذه الأحزاب مستمعا ومتفاعلا، ومتخذا مبادرات عملية لدعم الأحزاب ماليا وقانونيا، ولحمايتها من رواسب تعاملات إدارية بقيت حسّاسة تجاه هؤلاء الوافدين. وأعتقد أنّ الرئيس عدّل في هؤلاء حتى تنشأتهم السياسية، فوعوا من خلاله بأن المعارضة عليها أن تدرك بأن دورها هو أبعد بكثير من الوقوف كحائط صد أمام منافسيها وأنها عندما تلج المؤسسات الدستورية وتتمثل في الهياكل العليا، فإنها تكون وقتها مضطلعة لمهمة وطنية، فيتزايد حجم مسؤوليتها، وتتحمل بالتالي وزر ذلك الدور الوطني الجليل وأعتقد أيضا أن الرئيس عدّل في حزبه بأن صفحة ا لحزب الواحد قد طويت نهائيا، وأن المشهد عليه أن يتحمل كل طرف سياسي مهما كان موقعه، وأن زمن حكم الفرد انتهى وأن عصر الخطاب الواحد والتوجه الواحد ولّى لغير رجعة. وهذا التعديل لا يكون بين يوم وليلة، ولا يكون بإرضاء طرف على حساب آخر، ولا يكون أيضا بالقفز على الواقع وتجاوز شروطه، وكيف يكون كذلك وهو أي الواقع حتى بإفرازاته المنطقية صعب المراس، معقّد العناصر، يحتاج إلى تغيير عبقري وهادئ، وإلى ضبط وتليين عدة أطراف ومن مواقع مختلفة، رسمية وغير رسمية وبمصالح متناقضة وبأمزجة لا تلتقي. فمن هذا الذي كان قادرا في تونس على التوفيق بين كل هؤلاء، غير بن علي الذي كان في نفس الوقت يصنع قاعدة انطلاق تونس اقتصاديا واجتماعيا وسط ظروف دولية ضاغطة وصعبة لا مكان فيها لأي قرار خاطئ في محتواه أو في توقيته والذي كان يشرف على دمج اقتصاد تونس في النسيج الاقتصادي العالمي وما تحمله عملية الدمج من تحديات والذي كان يسهر على الاستقرار وأمن تونس في محيط كلّه ديناميت وبارود؟ ويحق السؤال التالي أيضا، أين تراجعت أو حتى وهنت الإرادة الرئاسية في تشكيل مشهد سياسي جدير بالوعود السابقة ومتماش مع متطلبات العصر أين بالضبط؟ إنه سؤال ينتظر إجابات واضحة لا مزايدات بلا معنى.