الرئيس باراك أوباما أعلمنا وهو يعلن أمام عسكره عن زيادة 30 ألفا من جنده في أفغانستان أن أية قراءة فيها مقارنة بين الحرب الفيتنامية والحرب الأفغانية إنما هي «قراءة خاطئة للتاريخ»... ورغم معرفتنا بأن السيد أوباما ليس مؤرخا وإنما هو محام ورجل قانون وبما أنه حائز على جائزة نوبل للسلام وبالتالي يعرف ما يقول فإننا عدنا نذاكر بعضا مما سجل في التاريخ ومما كتبوه هم أنفسهم ليس في فيتنام فحسب بل في عدد من الساحات التي تعرضت لاحتلال ووجدنا الآتي: الحقيقة الثابتة وغير الخاطئة التي علمها لنا التاريخ هو أن كل عدوان إلى هزيمة وكل احتلال إلى زوال مهما قسا وتجبّر وطال ومهما كان الفارق في القوى ما دام صاحب الحق مصرا على استرداده... ففي وطننا تونس بلغ عدد القوات الفرنسية الآلاف المؤلفة لكن ذلك لم يمنع من إجبارنا لها على الخروج من أرضنا الطاهرة «انتصرت الأشفة على الكف» كما كان يقول الزعيم الحبيب بورقيبة وفي الجزائر الشقيقة وصل عدد القوات التي حاربت بها فرنسا الثورة إلى ما يقارب المليون جندي في أواخر 1960 أي قبل الهزيمة بعام فيهم الكوموندوس والمظليون والمرتزقة من مختلف الجنسيات وقوات حفظ الأمن وقوات لاحتياط وفيهم من سموا (الحركيين) الذين جندتهم فرنسا لقمع المجاهدين والتجسس عليهم و(امخازنية) وهم جزائريون اختاروا الانضمام إلى الجيش الفرنسي طواعية وكان معظمهم قد شارك في الحرب العالمية الأولى أو الثانية أو حرب الهند الصينية إلى جانب فرنسا.. وقد بدأت فرنسا مواجهة ثورة المليون شهيد ب114 ألف جندي ظلت ترفع في أعدادهم إلى ما لا يقل عن نصف مليون ورفعت مدة الخدمة العسكرية إلى 21 ثم 24 ثم ثلاثين شهرا... وأنشأت خط (شل) على الحدود المغربية وخط (موريس) المكهرب على الحدود التونسية و«غرفت» ما شاءات من طائرات ومعدات الحلف الأطلسي لتلك الحرب (وبعضنا يذكر طائرات الB26 الأطلسية التي اعتدت علينا في حرب بنزرت)... ومع ذلك اندحرت فرنسا وغادرت الجزائر مع مئات الآلاف ممن تعاونوا معها. الحالة نفسها عاشتها فرنسا قبل ذلك في الهند الصينية حيث منيت بهزيمتها المدوية والمخزية في (ديان بيان فو) الفيتنامية... وخرجت من فيتنام بخسارة نصف مليون بين قتيل وجريح ومفقود من الفرنسيس وحلفائهم الفيتناميين... وبريطانيا احتلت أفغانستان ودحرت والروس أو لنقل السوفييت كان لهم أيضا تجربة ونصيب في أفغانستان بالذات التي دخلوها غزاة في عام 1979 بمائة ألف عسكري ونصبوا من أرادوا من حكام موالين ودامت حربهم أكثر من تسع سنوات وخرجوا مدحورين أيضا (فيفري 1989). وقصة أمريكا في فيتنام معروفة وما سنذكره ليست قراءتنا (خاطئة كانت أم مصيبة) بل ما دونه الأمريكيون والأطلسيون في كتبهم كانت الفيتنام بعد اندحار الفرنسيس قد قسمت «دوليا» إلى شمالية وجنوبية لكن الزعيم الشمالي (هوشي منه) كان يوصي أبناء وطنه وهو يفترش معهم الحصى بالمثابرة والصمود لمنع تمزيق الوطن... سارعت أمريكا لدعم الجنوبيين... في البداية ببعض «المستشارين» المدنيين وفي عام 1961 وصلت طلائع الجيش الأمريكي إلى سايغون وكانت في البداية 400 جندي مهمتهم تشغيل طائرات الهيليكوبتر وفي السنة الموالية بلغ عدد الجنود الأمريكيين في فيتنام الجنوبية 11 ألف جندي، وفي جانفي 1962 أنشئت قيادة أمريكية في سايغون وحتى لا ندخل في تفاصيل كثيرة ومن دون أن نحيد عما أرخوه هم أنفسهم نقول إن أمريكا زادت تعزيزاتها لتصل إلى ما يناهز 200 ألف جندي في نهاية 1965، ثم وصل في صيف 1968 إلى 550 ألفا كما قامت باستبدال النظام في سايغون واستعانت بقوات أطلسية «حليفة» من كوريا الجنوبية وتايلاند واستراليا ونيوزيلندا والفيليبين حتى وصل العدد الجملي لهؤلاء مضافا إليهم قوات فيتنام الجنوبية إلى مليون ونصف مليون... ومع ذلك لم يتوقف أبناء (هوشي منه) إلا عندما دخلوا سايغون واضطر السفير الأمريكي إلى استخدام طائرة هيليكوبتر للفرار من فوق سطح السفارة في سايغون (أفريل 1975) صحيح أن الفيتناميين ضحوا بالملايين بين قتلى وجرحى ومعوقين لكن أمريكا وحدها خسرت 53 ألفا و226 قتيلا و153 ألفا و303 من الجرحى و587 من الأسرى إضافة إلى الالاف من المصابين بعاهات مستديمة واضطرابات نفسانية، وتوحدت فيتنام الشيء نفسه حصل في كامبوديا واللاووس المجاورتين حيث اندحرت أمريكا ولم تخلف إلا مآسي مازالت معاشة إلى اليوم. المحصلة إذا شئنا المقارنة هي أن أمريكا دخلت فيتنام في ستينيات القرن الماضي بعنوان الحرب الباردة، وهي في أفغانستان بعنوان الحرب على الإرهاب أي بعد اتهام طالبان والقاعدة بأحداث سبتمبر 2001 في انتظار انكشاف كل الأسرار.. وفي فيتنام بدأت بآلاف ثم عشرات الآلاف ثم مئات الآلاف... وفي فيتنام ارتكبت مجازر ضد المدنيين والقت على الشمال وحده ما يوازي 83 قنبلة ذرية من المتفجرات... واحتلت كمبوديا وقلبت ملكها سيهانوك واحتلت اللاووس بعنوان ضرب خلفية الثوار «الفيت منه»، وها هي طائراتها تصول وتجول في الباكستان وتصريحاتهم الأخيرة تشير إلى الاستعداد لتوسيع التدخل لقطع الطريق أمام القاعدة وطالبان في الشمال الباكستاني. هذا بعض ما قرأناه في التاريخ.. مثلما كتبوه.. وأترك لكم الحكم على إمكانية المقارنة بين هذه الوقائع وما يحصل في أفغانستان.. مضاف إليه أن الساحة الأفغانية لها خصوصيات لا تتوفر في كثير من الساحات الأخرى.. ومنها أن الشعب الأفغاني الذي يعد أكثر من ثلاثين مليون هو فسيفساء عرقية ومذهبية.. فهو 40٪ من البشتون (أبناء عمومة الباكستانيين) و37٪ من الطاجيك وهو امتداد لطاجيكستان المجاورة و9٪ من الهزارة وهم من الشيعة ذوو الميول الإيرانية و7 ونصف بالمائة من الأوزبك وهم امتداد لليزبك على الجانب الآخر من الحدود و2٪ من التركمان ومن ورائهم أبناء عمومتهم في تركمانستان المجاورة ومجموعات أخرى... وبقدر العرقيات بقدر اللغات بما فيها العربية وضعف عددها أضعافا عدد الزعامات والتي نشأ أساسا خلال فترة «الجهاد» ضد السوفيات الملحدين وبدعم أمريكي بالأساس ومن زعمائهم برهان الدين رباني وصبغة الله مجددي واسماعيل خان وقلب الدين حكمتيار وعبد الرسول سياف وعبد الرشيد دستم والملا محمد عمر الخ.. وصولا إلى حامد كرزاي وعبد الله عبد الله... ولكل حزبه وميليشياه ودولة من ورائه تدعمه وقد وجهوا رصاصهم ضد السوفييت مجتمعين ثم حولوه إلى صدور بعضهم البعض متناحرين إلى أن قامت حركة طالبان (بدعم باكستاني).. والسؤال الآن هل سينجح السيد باراك أوباما في الوصول إلى أهدافه المعلنة؟ وإذا ما تحقق له ذلك هل سيضمن ألا يعود الأفغان إلى الاقتتال؟ إذا عدنا إلى التاريخ الأفغاني قبل الفيتنامي فالجواب أن ذلك غير مضمون.. وها هي القوات تتهاطل أمريكية وأطلسية وما علينا إلا الانتظار... والمستقبل سيبين لنا وللسيد أوباما إن كانت قراءتنا للتاريخ «خاطئة» أم منطقية.