قد تبدو العبارة أعلاه نوعًا من التعسّف على الفنّ إذ تربطه بالحقيقة، وكأنّ في وسع أحدنا أن يختزل الفنّ في بعدٍ واحد أو أن يمسك أخيرًا بكنهه الممتنع المراوغ. إلاّ أنّ الدكتور نزار شقرون لم يقصد إلى شيء من ذلك وهو يختار هذه العبارة عنوانًا لكتابه الممتع العميق «شاكر حسن آل سعيد، حقيقة الفنّ» الصادر بالشارقة (2009، 300ص). تتنزّل عبارة «حقيقة الفنّ» هنا في سياق الإمساك بمختلف أبعاد خطابٍ إبداعيّ فكريّ ملتبس بسيرة رائد من أبرز روّاد الفنون التشكيليّة العربيّة، يمكن اعتباره نموذجا للمبدع الذي لا خصومة لديه بين الحياة والفنّ ولا انفصام لديه بين الفعل والتفكير. مبدع من طراز نادر، أنجز من الأعمال بقدر ما عاش، وفكّر في الفنّ بقدر ما فكّر في حياته، وجرّب في الحياة بقدر ما جرّب في الفنّ، مهووسًا بالرغبة في محو الفواصل والحدود. وهو ما أكّده الشاعر والباحث شربل داغر في مقدّمة الكتاب، حين أشار إلى هوس آل سعيد بأن يكون فنّهُ «أكثر من مهنة، أكثر من لوحة، بل أكثر من فنّ...أن يكون الفنُّ الحقيقةَ عينَها، حقيقةَ الوجود مثل حقيقة الإنسان...ص18». من هذا المنطلق تتبّع الباحث كتابات هذا المبدع العراقيّ الكبير، مقلّبًا المصطلحات وآليّات التفكير، معرّفًا بجهده النظريّ، مُسائلاً أفكاره، ذاهبًا بكلّ ذلك إلى «استشراف حدود تجربة الكتابة النظريّة العربيّة في مجال الفنون التشكيليّة... ص22»، واضعًا كلّ ذلك على محكّ التجارب والمراجع، مدقّقًا في المصطلحات منتبهًا إلى التناقضات، مقتفيًا أثر المبدع وهو يعالج مسائل الهوية والتراث أو وهو يحاور الأسطورة أو وهو يواجه مزالق الإيديولوجيا واليوتوبيا أو وهو يستدعي الخطّ العربيّ والمنمنمات وصولاً إلى التصوّف والتجريد و«البعد الواحد»، خالصًا إلى أنّ الكتابة لدى هذا المبدع كانت مغامرة كشفيّة لا تقلّ عن العمل الفنّي في شيء (ص 280)، مبيّنًا خصوصيّات هذه المغامرة ضمن سياقها العربيّ والعالميّ الأشمل. وبعد فالكتاب أخصبُ وأثرى ممّا يتيحه حيّز هذه الورقة. ويكفيني هنا أن أغري بقراءته الجميع، فهو من تلك الكتب النادرة التي عرف صاحبها كيف يعقد صلحًا تامّ الشروط بين المختصّ وغير المختصّ، إذ يجد فيه الأوّل ما يتطلّبه الاختصاص ويستطيع الثاني أن يقرأه بمتعة ويسر. وما كان لذلك أن يكون لولا ما توفّر للكاتب من خلفيّة عميقة وأدوات مُحكمة. فهو الباحث والجامعيّ المتخصّص في علوم وتقنيات الفنون، وهو المثقّف المنتج المنفتح على مختلف فضاءات الثقافة والإعلام، وهو قبل ذلك كلّه الشاعر والكاتب الذي قرأنا له أربع مجموعات شعريّة بدايةً من «هوامش الفردوس/1991» وصولاً إلى «ضريح الأمكنة/2002»، إضافة إلى مسرحيّة بعنوان «رقصة الأشباح/1999» وكتاب نقديّ سبق أن احتفيتُ به إذاعيًّا بعنوان «محنة الشعر/2005». وقد أتاح له كلّ ذلك أن يجعل من كتابه مصهرًا ناجحًا، تتوهّج فيه لغة العلم بلغة الأدب، وتتألّق فيه منهجيّة الأكاديميّ بحدس الشاعر. ولعلّ هذه الصفات لم تفت لجنة التحكيم المرموقة التي عُهد إليها بتسليم جائزة الشارقة للبحث النقديّ التشكيليّ في دورتها الأولى سنة 2008. وهي جائزة جديرة بالتنويه، وغير مسبوقة في اهتمامها بتشجيع الخطاب النقديّ المهتمّ بمجال الفنون التشكيليّة. ومن أهدافها: التعريف بأعمال الكتّاب والنقّاد التشكيليّين العرب، وتوسيع دائرة الاهتمام بالتجارب التشكيليّة العربيّة، ورصد حركة النقد التشكيليّ في المحترفات العربيّة، وبناء الصلة بين المجتمع وفنونه عبر اللغة النقديّة. وهي كما نرى أهداف من صميم ما تصبو ساحات الفنون التشكيليّة العربيّة إلى تحقيقه، هي التي تشكو من فقر نقديّ مدقع، كاد يصبح نوعًا من اليتم، على الرغم من وفرة الطاقات والمواهب. تلقّت هذه اللجنة أكثر من ثلاثين بحثًا من مختلف البلاد العربيّة، واتّفقت بعد التداول على منح ثلاث جوائز، ذهبت إحداها إلى باحث تونسيّ مبدع، أنا من أشدّ المعجبين بمؤلّفاته منذ سنوات، هو الدكتور محمد بن حمودة، عن بحث أتمنّى أن تتاح لي فرصة الاحتفاء به قريبًا، عنوانه «الريادة الفرنسيّة، توطيد العمود الأكاديميّ بتونس». أمّا جائزتها الأولى فقد ذهبت إلى الدكتور نزار شقرون مكافأة له على كتابه هذا. فرصة للفرح حيث قَلَّ ما يُفرح. وفرصة للقراءة حيثُ قلّ من يَقرأ.