مشهدان في غاية الدلالة والتعبير، الأوّل جمهور تكتّل «14 اذار» اللبناني يتظاهر ذات ربيع من سنة 2005 في «ساحة الصلح» في بيروت مناديا بكشف قتلة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وباسقاط النظام السوريّ على شاكلة نظام صدّام حسين ...الثاني زيارة القطب الأهمّ والأقوى في «14 اذار» سعد الحريري لدمشق واعلانه من «قصر تشرين» عن فتح صفحة جديدة من العلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين . ما بين المشهدين ... تصريح للطرف الأساسي السابق في «14 اذار» وليد جنبلاط يعبّر فيه عن ندمه من «التهم» التي ألقاها جزافا في وجه دمشق مبديا استعداده للاعتذار للرئيس بشار الأسد على الملإ... خمس سنوات الاّ قليلا.. كانت الفاصل الزمني بين المشهدين.. والحيّز الوقتي الذي استغرقه تغيّر جذريّ في سياسات قيادات التكتّل المعارض لسوريا والذي انتقل من المواجهة العنيفة لدمشق وحلفائها في داخل لبنان الى التحالف مع سوريا وتشكيل حكومة وحدة مع مؤيديها.. تغيير كبير.. يدعونا الى التساؤل عن أسباب التغيير الطارئ والى الاستفسار عن طبيعته فهل هو تكتيك أملته الظروف أم هو خيار فرضه التاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة المشتركة...؟ ففي الوقت الذي كانت فيه حناجر التحريض و»الجعجعة» تدعو الى ابعاد دمشق من المعادلة السياسية الشرق أوسطية» ماديا أو معنويا ...كانت الأخيرة تنادي كافة الأطراف اللبنانية بضرورة مراجعة الحسابات السياسية وعدم الاغترار بالاصطفاف الغربي وراء مطالبها وتؤكد أنّ يدها ممدودة لكلّ شقيق، ضلّ أو أضلّ، عن طريق الوحدة.. لكأنّها كانت تدرك أن دعم واشنطن لتكتّّل «14 اذار» لن يدوم خاصّة وأنّ مطلب واشنطن بتحويل لبنان الى ولاية أمريكية جديدة في الشرق الأوسط والى خط الدفاع الشماليّ الأوّل عن اسرائيل، ارتطم بصخرة المعارضة اللبنانية الوطنيّة التي رأت في دعم المقاومة مساندة لحرية لبنان من كلّ أنواع الاستعمار والتي اعتبرت أنّ الوقوف الى جانب سلاح «حزب الله» وقوف في وجه التدخلات الاسرائيليّة والأمريكيّة... وبالفعل تحوّلت الضغوط الأمريكية على «14 اذار» الى شبه أوامر وتعليمات ملزمة، الأمر الذي أسقط كافّة شعارات «التعاون» المبني على الاحترام المتبادل وبان بأنّ السفارة الأمريكية تريد من التكتّل ان يتحوّل الى أداة طيّعة في يدها هي وحدها فقط وناطق لبناني باسم خارجيتها... ازاء هذا الواقع كان أمام القيادات المذكورة أمران امّا «سياسة الارتهان المهين لواشنطن» مع ما يقتضيه هذا الاتصال من انفصال عن المصالح الوطنية والاقليمية والعربية قد يصل الى حدّ استعدائها، وامّا سياسة الخروج من التحالفات والبقاء على درجة متساوية من كافّة المحاور ...مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ «عدم عداء سوريا» يعني اليّا التوافق والتالف معها.. وفق هذا المنطلق اختار وليد جنبلاط أن يحقب أمتعته وأن يغادر التكتّل.. وكذلك سعد الحريري.. ولاغرو فكلاهما ابن لمناضلين التحما بقلعة الشامّ الأبيّة...كمال جنبلاط ورفيق الحريري..الذّي استحال في ذروة الاحتقان الطائفي والايديولوجيّ الى «قميص عثمان» يلوّح به أعداء النظام السوري في كلّ حادثة سياسيّة قصد الترهيب دائما والتّرغيب أحيانا .. بيد أنّ الأقدار تشاء أن تسحب من تحت أقدام فريق «14 اذار» ذريعة استعداء سوريا.. فيبرئ القضاء الدوليّ ساحة المتهمين الأساسيين باغتيال الحريري ,الذين وقع اتهامهم لعلاقتهم القوية بدمشق، ولتصبح بذلك براءتهم براءة للنظام السوري من دم الحريري. حجم المفاجأة ينكشف جليا عندما ندرك أنّ المحاكمة المهزلة صمّمت من بعض اللبنانيين والعرب والاسرائيليين والأمريكان من أجل ادانة سوريا لمواقفها العروبية «بديباجات تصفية الحريري» والتي كان يكفيها أضعف الحجج وأوهنها لاحكام المقصلة على النظام السوري غير أنّها (المسرحية التمثيليّة) برّأت دمشق ..ولهذا فقط عانق سعد بشار بحرارة وجلس حذوه لأكثر من ثلاث ساعات ونصف.. بالتوازي مع سقوط الشعارات الكاذبة وتهاوي أسس «العدالة الواهية» وقف التمسّك السوري بالخيارات القوميّة عاملا مؤثرا في تحويله الى بوصلة لتصحيح المواقف، فلم يقايض المسؤولون السوريون بدعمهم للقضيّة الفلسطينيّة وللمقاومة اللبنانيّة بتخفيف الحصار السياسيّ الذي أفضى بالأمريكان الى التفكير في سيناريوهات «ما بعد الأسد»..بل انّهم وفي قلب الأزمة كانوا يشدّدون على التماهي بينهم وبين خيار المقاومة وعلى أنّه لا يوجد ثمن تضحّي بمقتضاه دمشق بفصائل المقاومة..في المقابل كان أنصار الولايات المتحدّة ينظرون بالكثير من الأسى والاستياء الى واشنطن وهي تستغني عن عملائها الواحد تلو الاخر وتضحي بهم من دون أيّ مقابل... وفي مقارنة بسيطة بين مؤيدي دمشق و«عملاء» واشنطن اختارت بعض القيادات اللبنانيّة أن لا تكون أكباش أضحية على قرابين سياسات العم سام... نقول «بعض» القيادات لأنّه ثمّة من الساسة الاخرين ,وهم موجودون في كلّ العالم العربيّ, من اختار الاذعان طوعا لواشنطن واستحال الخضوع مكوّنا من مكوّنات شخصيّته، حتّى وان تيقّن بأنّه مغدور به لا محالة وأنّ قافلة النصر تبدأ من الجنوب اللبناني مرورا بجيوب المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزّة والعراق وصولا الى دمشق وأنّ قارب النّجاة عربيّ الهوى والهويةّ لن يرسو أبدا على السواحل الأمريكيّة...