مواصلة للجدل الذي أثاره الحوار الذي كنّا أجريناه مع الفنان منجي معتوق رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين وهو الحوار الذي أثار ردودا ليس على صفحات «الشروق» فقط بل حتى على صفحات صحف أخرى. نلتقي اليوم بالأستاذ كمال الحاج حمودة النحات والجامعي وهو خريج المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس اختصاص الجمالية وعلوم الفن وأستاذ بالمدرسة العليا لعلوم وتكنولوجيات التصميم ويعتبر أحد المراجع الأساسية في التجربة الفنية التونسية مبدعا وأستاذا ومؤطرا. كيف ترى الجدل المثار هذه الأيام حول التصنيف الفني والتكوين الأكاديمي والعصامية؟ موضوع بهذه الأهمية لا يجب أن يبقى سجين دردشا المقاهي أو بعض المقالات الصحفية فالأمر يستدعي فتح حوار جدي وعميق فأظن أننا وصلنا إلى لحظة من الرداءة لا يجب السكوت بعدها فكما قال «براشت» «لن يقولوا كانت الأزمنة سيئة بل سيقولون لماذا سكت الشعراء؟». هل هنالك نقد فني في تونس؟ بكل أسف لا، فعملية النقد الفني التي يجب أن تصاحب الأعمال الفنية مفقودة بمعناها الأكاديمي والتي هي متواجدة في البلدان الراقية باعتبار نشأة وتطور الفنون التشكيلية فيها. فالناقد الفني هو ذلك الوسيط بين القارئ والأثر الفني هو الذي يرسم طريق الفهم وطريق الإحساس بالعمل الفني أنه ذلك الذي ينطلق من داخل الصمت الذي تفرضه اللوحة لكي يمهد السبل أمام القارئ المتفرّج ليفك ألغازها ويجعلها قابلة للتخمين أنه ذلك الذي يحدد مسار التاريخ فيربط بين الماضي والحاضر وهو بذلك يعطي قيمة اللوحة ويعطي للفنان مصداقيته وشرعيته ومن ثمة فهو الذي يؤسس استحقاق الفنان فيدعم بكل الأدلة التشكيلية والجمالية انفراديته وإضافاته لتاريخ الفن. الناقد الفني هو بمثابة «الأمين» الذي يقيّم الأعمال الفنية فيعطيها معيارها وقيمتها الحقيقية إنه في ذلك يشبه «أمين الصاغة» الذي يحدد القيمة الحقيقية للذهب 24 قيراطا «18 قيراطا» و«9 قيراطات» أو ذهب «فالصو». إذا لم يكن هنالك نقد فني فما هذا الذي يكتب عن الفن التشكيلي؟ أظنك تعني ما يكتب على صفحات جرائدنا اليومية. بكل تأكيد؟ الأمر هنا مختلف فالصحفي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الناقد الفني كما أن النقاد الفنيون لا يكتبون إلا في مجلات وصحف مختصة وحتى إن اقتضى الأمر ونشرت مقالاتهم في الصحف اليومية وغالبا ما يكون ذلك تحت رغبة أصحاب الأروقة فإن المقال يكون نقلا عن المجلة المختصة أو عمّا جاء في «كتالوق» الفنان. إذا وقع هذا الخلط وتهيأ للصحفي أنه ناقد فني فإننا سنحضر محضر سوء يكون ضحيته الفن التشكيلي وهو ما وقع في بداية القرن العشرين حيث أصبح الفنان بيكاسو تكعيبيا «Cubiste» وفرناند ليجيه لولبيا «Cylindriste» فمن لا يفهم نظرية بول سيزان: في الطبيعة كل شيء مكعب وملولب وكرة «Dans la nature tout est cube cylindre et sphère» قال إن بيكاسو تعكيبيا. لعِلْمِ هؤلاء وأمثالهم فإن بيكاسو لم يكن تعكيبيا كما ماركس لم يكن ماركسيا يقتل من يخالفه ا لرأي كما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إرهابيا يتحزّم بحزام ملغّم ليقتل نفسه ومن لا يأتمر بإمرته. لماذا لا يستطيع الصحفي أن يصبح ناقدا فنيا هل هذا استنقاص من مهنة الصحفي؟ لا بل هو اكتمال «عكس استنقاص» لمهنة الصحفي فالصحافة هي مهنة قائمة الذات بكل قوة وشدة وليست في حاجة إلى أي مهنة أخرى لتحقق اكتمالها ثم إنه ليس في وارد الحديث حول الحق في النقد إنما نسعى إلى الكشف عن مستلزمات هذه العملية النقدية فكما في الفن فروع واختصاصات في الصحافة أيضا شيء من ذلك هنالك صحفي الخبر وصحفي الرأي والكاتب الصحفي القضية إذن هي قبل كل شيء موقع الصحفي واحترامه لاختياراته وعلميا هذا ما وعته المؤسسات الجامعية مثل معهد علوم الإخبار فلا يمكن لصحفي أن يكتب اليوم عن عملية اقتحام متجر وغدا حول مسرحية وبعده حول أزمة الأغنية التونسية هنا يكمن الإشكال المبدئي الإشكال الثاني هو حول معيارية الصحفي المختص هل الكتابة المتواترة حول الفن التشكيلي أم هي ضرورة امتلاك الأدوات والاطلاع على تاريخ الفن وتاريخ الأفكار بمختلف المحاورات التي قام على أساسها هذا الفن. لم تحدد لنا الاختلاف بين مقال الناقد الفني ومقال الناقد الصحفي؟ الأمر واضح وجلي فعملية النقد الفني هي عملية أكاديمية دقيقة لا مجال للمجانية وهي عملية تحليل صارمة تبتدئ بجمالية الموضوع لتصل إلى جمالية الشكل وهنا يجب أن يكون الناقد الفني محيطا بكل مستلزمات وتطورات الفن التشكيلي كعملية التصوير اليدوي واختلاف تطورات واختلاجات الخطوط عبر مختلف الرسامين كذلك اختلاف وتطورات استعمال اللون والشكل ذو البعدين أو الثلاثة أبعاد إلى آخر ذلك مما يدرس تطبيقيا في مدارس الفنون الجميلة أو في المتاحف الكبرى كذلك يجب أن يكون الناقد عليما بتاريخ الفن وبمختلف تصنيفاته ومختلف حواراته حتى يتسنى له أن يحدد تموقع الفنان داخل الساحة الفنية الناقد الفني هو الذي يغوص داخل اللوحة ليقرأ ما تفرزه الأشكال والألوان والخطوط لينفذ من خلال ذلك وبكل دقة إلى ذائقة الفنان ليحدد رؤيته للعالم. أما المقال الصحفي فهو متابعة للحدث سواء بنقله أو بالتمحص فيه الصحفي هو الذي يصنع الحدث هو الذي ينبه الناس ويشد اهتمامهم إلى أشياء لا تهمهم عادة. الصحفي هو الذي يقدّم الفنان إلى الناس المعرض حدث والحدث هو من اهتمام الصحفي الصحافة مهنة ذكية ودقيقة كذلك وتتطلب درجة قصوى من الصرامة فالصحفي الجيد هو الذي يستدرجك لرأيه دون التهديد بشيء قد يوقظ فيك ملكة الاستهزاء بمقاله إنه يدعوك إلى قراءة الخبر والتمحص فيه بكل موضوعية فيترك للقارئ مجالا للتفكير مستعينا بما وضعه بين السطور من مقاصد ورموز. الصحفي كذلك مطالب بالاطلاع ولكنه مطالب باختزال وتبسيط الأشياء حتى يقربها من فهم الناس الصحفي هو ذلك الذي يطالعنا كل صباح بأخبار تصاحبنا كامل اليوم بل كثيرا ما تكون موضوع نقاش المساء فهو الذي ينقل لنا كل ما يدور حولنا من حقائق ومن خرافات إنه ذلك المبدع الذي يحدد بحسّ رهيف مواطن الزيف وراء الخبر بإشارات ذكية. الصحفي كذلك ملزم بفضيلة الصدق والأمانة وهنا تلتقي المهنتان الناقد الفني والصحفي في منظومة أخلاقية واحدة فكليهما يجب أن يحتكم «للضمير الثقافي» لا لأي شيء آخر! وهكذا تكون الصحافة كذلك منظومة خصوصية تتوفر فيها صفة الأكاديمية. إن الحديث عن الأكاديمية يفرض علينا الخوض في مسألة العصامية فما رأيك في العصامية؟ أظن أن مسألة العصامية هي مسألة تابعة للقرن التاسع عشر والخمسينية الأولى من القرن العشرين ففي مجال الفن التشكيلي مثلا نجد اليوم بتونس أربعة عشر مدرسة تعنى بهذا الفن دون ذكر المدارس الخاصة وهي كثيرة ودون ذكر مراكز التكوين التابعة إلى بعض السفارات ودون ذكر الدروس الخصوصية التي يتلقاها البعض عند فنانين مكرسين إذن فالمسألة مغلوطة عندما تطرح على أساس العصامية والأكاديمية وإن وجدت بهذا الشكل فذلك لحجب المسألة الأساسية وهي مسألة «الرداءة» وانعدام الموهبة هنالك أعمال تطرح اليوم في «الأروقة العمومية» والأروقة العمومية هي تلك التي لا تحتكم إلى منظومة الجودة فيكفي أن تعبّر عن رغبتك في قيام معرض حتى تلبّي رغبتك فتأتي هذه الأعمال لتملأ بياض الجدران والحال أن «البياض هو حالة التوازن القصوى للجدار» هذه الأعمال أقل ما يقال فيها إنها مبتدئة ولكن الأمر إلى هذا الحد لا يمكن أن يكون خطيرا ففي كل بلدان العالم هنالك أعمال مبتدئة يطالب صاحبها من خلال العرض وبكل تواضع التوجيه مستعينا بأهل الذكر، وكثيرا من هذه المعارض تقام نزولا عند رغبة أحد النقاد الفنيين أو أحد أصحاب الأروقة الذين يدفعون بصاحب العمل إلى العرض لأنهم لمسوا فيه شيئا من النضج. أما ما يحدث عندنا فهو شاهد على انعدام القيم فأصحاب هذه الأعمال ينتصبون كفنانين مكرسين بل إنهم يغتاظون عندما لا تعترف بموهبتهم بعدما تحصلوا على شهادات إبداع عظيمة لا تضاهيها شهادات أعتى مدارس وأكاديميات الرسم هذه الشهادات هي عبارة عن مقالات صحفية تبتدئ بالفنان العظيم صاحب الموهبة الفذة لتنتهي بأحد اكتشافات القرن هذا هو الخطر القادم من المعايير الصحفية. إذا السؤال المطروح اليوم من يرسم ومن يكتب عن الرسم؟ في هذا المجال أريد أن أعرج على شيء هام فمن خلال موقعي كأستاذ في الجمالية وعلوم الفن تطرح بين أيدينا في قاعة الدرس أعمال لطلبة تفوق بكثير الأعمال التي نشاهدها في كثير من الأحيان اليوم في قاعات العرض ونحن كأساتذة نرفضها ونطالب بمزيد من التعمق نطالب بألوان نظيفة، نطالب الطالب بمزيد البحث في توازن التركيبة.. الأمر كذلك موجود عند الفنانين المكرسين فهناك ما يعبّر عنه ب«فضلات المرسم» Déchets d'atelier والتي عندما نراها نعجب بها في بعض الأحيان ولكن الفنان يرفض عرضها بل إنه يخفيها غير معترف بها، اليوم نجد أقل بكثير من هذه الأعمال تعرض فيتكلم أصحابها بكل اعتداد بالنفس عن العوالم الخارقة التي يرسمونها وعن الأحلام الجميلة التي ستنقذنا من الظلال.