لقد سمح الفنان الأستاذ سامي بن عامر لعديد الشبان واليافعين بالانخراط في صلب اتحاد الفنانين التشكيليين وخاطر بتوسيع دائرة المنتمين لهذه الجمعية ذات الصبغة التعاونية حسب ما يشير إليه قانونها. وشجع عديد من اليافعين الذين أخذوا طريقهم وأصبحوا فنانين ذوي تجربة وتحمّل مسؤوليته في ذلك رغم جميع ما تجشمه من صعاب بين سلطة إشراف تسعى لتقريب الجمعية وبين فئة من الفنانين الذين ظلوا متمسكين بشروط صعبة من أجل الانتماء إلى الاتحاد ومضى في طريقه مؤمنا بعضا من الممكن من المصالح لعديد الفنانين كالتغطية الاجتماعية للبعض والمقر للاتحاد نفسه، وكان يصعب أن تجد سقفا لبيت معلق في الهواء. وتعرض لانتقادات عدّة ولهجومات عنيفة من واجهات مختلفة، لكن رحابة صدره ورباطة جأشه لم تسمحا له بالتخلي أو بالمتاجرة في هذه الملكية الجماعية ذات البعد الرمزي والدلالي على الوجود. وأعرف جيدا مدى تنكر البعض لمجهودات هذا الرجل وسعيهم إلى انتقاده من خلال بعض الجزئيات التي احتسبوها عليه دون أن يعلموا أن العمل الجماعي في تونس صعب وأن المبادرة الفردية تحمل نجاحاتها كما تحمل اخفاقاتها وان الأمور والتقييمات تظل دائما نسبية خاصة إذا ما كانت فردية. وأعرف ان عديدا ممن بقوا في الاتحاد وتسلموه إثر الفترات النيابية لسامي بن عامر لا يملكون أسلوبه الهادئ وطريقته الديبلوماسية في التعاطي مع أمهات القضايا وقد يعزى ذلك إلى الاندفاع المفرط أو إلى انعدام الخبرة، ومن منها ولد ذي خبرة؟ أو كذلك على المزاجية المعروفة عند التشكيليين. أما وأن تصل الأمور إلى رغبة في اكتساب المواقع والصلاحيات على حساب هذه المؤسسة الوطنية العريقة، فإننا نستغرب هذه العودة إلى الأسلوب البيزنطي، الذي وللأسف تساهم فيه مؤسسات إعلامية مرئية ومسموعة ومقروءة، ألم نجد في تاريخنا غير الفترة البيزنطية لاستلهام أسس الحوار الودّي، الحوار البناء الذي يجعل تونس نصب عينيه ويضع القيمة الايتيقية للفن والفنان في موقع يحترم رمزية الفنون التشكيلية وأبعادها العلمية والمعرفية التي تساهم في تجميل وتحسين مستوى العيش والرقي به؟ هل غاب عن ذهن هؤلاء أن في تاريخ تونس مدنية رومانية بما تحمله هذه المدنية من قيم الساحة العامة ومقتضياتها كالديمقراطية أم غاب عن تصورهم عراقة البلاد وأسبقيتها في الانخراط في الحداثة من خلال أول دستور في البلدان العربية والاسلامية في عصر خير الدين؟ لم أجد لهذا الهجوم على المؤسسات الأكاديمية من مدارس للفنون أو على الاتحاد أي مبرّر ولا تفسير. وحتى مقولة تفاعلية الأحداث أو تراكمها لا يمكنها أن تقنعني بجدوى تكريس كل هذا الوقت والمساحة والمجهود لتأطير حوار لا يسمح للفنون التشكيلية بأن تتقدم أو تتطور وتفرض حضورها بقوة كما كانت في العقود الماضية، بقدر ما يوقعنا في محظور الفتنة والخطابات العرجاء. شخصيا لا تجمعني أي عداوة بأي فنان تشكيلي تونسي سواء دارس أكاديمي أو عصامي ولا مشكلة لديّ غير أن يكون الفن هو الشاغل الأول. وأستحضر استغرابا سجله الفنان جابر المحجوب إزاء إفادة عن تجربته لفائدة إذاعة المنستير أعقبه باستغراب عن قيام طالبة ببحث حول أعماله، ناقشته ضمن الماجستير ورشحته للنشر وقبلت استغرابه بمرح وضحكة اعرف مصدرها، انه ليس من العيب ان نتناول تجربة زيد او عمرو بالدراسة والبحث طالما امكن لهذه الدراسة أن تقدم لنا اضافة لرصيدنا الوطني، كما انه ليس من العيب ان يغمط البحث الجامعي حق ومجهود اي كان من الأكاديميين (اذكر انني كنت امر على القيروان حين درست بسليانة وأتابع دروس الصديق مصطفى الكيلاني حول الدقلة في عراجينها مطبقا احدث مناهج الدراسات السردية عليها وقد اعانني هذا الصديق على فهم معطيات في أدب خريف لم أكن لأعرفها من قبل). وفي ذات الغرض أعلم جيدا حدود ذاتي وحرياتي، فلا أسمح لها بانتهاك اي كان سواء أكاديميا او عصاميا، ا اعتبر ذلك تعديا على الكرامة الانسانية، لذلك اقول لنفسي دائما : قل كلاما جميلا او أصمت، حتى وأنت ناقد، كن موضوعيا او فلا داعي لهذا النقد المسموم، لأن النقد ابداع، ابداع على ابداع له وسائله وأساليبه وطرائقه ولذته، وأظن ان النقد اذا تجاوز حدود الاضافة يصبح لعنة (وسوف نعود على مسألة النقد هذه). يمكنني، كما يمكنكم ان تعاتبوا الفنان المنجي معتوق وهيئة الاتحاد التي يترأسها، على بعض الهفوات مهما كان حجمها، كما يمكننا ان نحاسبه ونحاسب الاتحاد على أسلوبه وسلوكه ونتائج عمله، لكن لا أحد منا يرضى ان يهدم الاتحاد على رأس المنجي معتوق وهيئته وعلى رؤوسنا جميعا كما انه لا أحد يرضى بنشر غسيل داخلي حتى وإن كان ناصع البياض ان للجامعة حرمتها ولوحدات البحث التابعة لها حرمتهم ولأساتذتها اجلالهم، نأخذ من قولهم وموقفهم الكثير دون ان نستعمل ما يخدمنا ونترك ما يتنافى ومصالحنا، كما ان للاتحاد حرمته وكرامته وكرامة المنتمين اليه على كل واحد الحفاظ عليها دون ادعاء او مزايدة كما على المنجي معتوق نفسه حمايته وصيانته بالوسائل المشروعة وبالأسلوب الحضاري واعتقد انه قادر على ذلك متى تجاوز انفعاليته واندفاعه. انه ليس مطلوبا من الجامعة ان تخرج فنانين تشكيليين، كما انه ليس من مهامها ان تمنح رخصا وشهادات للفنانين، ويخطئ من يعتقد ان كل استاذ عربية او فرنسية قادر على كتابة الابداع الأدبي ، ربما هو قادر على النظم والتصحيح والتقويم، لكن ليس المطلوب من كليات الآداب ان تدفع بخريجيها الى ساحة الابداع، لأن رهانات هذه المؤسسات هي ان تخرّج أناسا قادرين على التدريس وعلى التصميم وعلى التنشيط وعلى تحسين مستوى العيش في هذه البلاد التي راهنت على مجانية التعليم وكرست له ميزانية كبيرة، لقد اصبح مطروحا اليوم على الجامعة ان تساهم في ادماج خريجيها في الدورة الاقتصادية من خلال التربصات ومن خلال التعامل مع البيئة والانخراط في شواغلها حتى وان تطلب الأمر بأن يتحول الدرس الى خارج قاعات الفصل، فالجامعة ليست ثكنات او معسكرات وحتى ولو طلبنا من الجامعة ان تساهم في تصدير بعض الفنانين الى الحياة الثقافية، فان ذلك ليس مشروطا بالدرس، فنظام الارتقاء والتكوين والشواغل الشخصية للفرد هي التي تحكم في ظهور فنانين او نقاد او باحثين نوعيين يضافون الى الرصيد الوطني وكثيرة هي وحدات البحث والمخابر التي تشتغل عشرية كاملة للظفر بنزر قليل من هذه النوعية من الباحثين والمبدعين بالرغم من المجهود والتمويل المهول الذي يرصد لها. لا بد اذا ان نتحلى بالرصانة والحكمة في التعاطي مع هذه المسائل ولا ندفع بمطالبنا الآنية في المقدمة فنظلم انفسنا ونحطم مكتسباتنا ولنتفهم ان نجاح الواحد منا رهين نجاح الآخر وليس رهين إخفاق الآخر حتما. بل علينا أن نجلس إلى طاولة الحوار ونضع المصلحة العامة أمام أعيننا، ولست أدّعي في ذلك شيئا، كما لا أسمح بتأويل مقاربتي في غير سياقها، لأنني لست منحازا إلى طرف على حساب الآخر بقدر ما أعبّر عن استيائي لهذا الأسلوب الذي يقتل الابن، في ما يمكن تأويله بالإخصاء الذاتي، أو الميغالومانيا التي تقوّض كلّ شيء. وأعترف لكم بحجم المرارة التي شعرت بها عندما بلغني أن الناقد الكبير جابر عصفور قرّر عدم استضافة التونسيين في الندوات، لأنه سئم أن يرد عليه صوتا أو نصا تونسيا يجرّح في شخص ابن بلده هذا أو ذاك لمجرّد أن يكون محلّ استضافة في ندوة. هم يحتفون بمبدعيهم مهما كانت خلافاتهم التي تظل داخلية ونحن؟؟؟؟ ألهذا الحدّ أصبح القول الدارج: «ما يفقد عين الفلوس كان خوه» قيمة متداولة؟ أسأل سؤالي هذا وأسأل اللّه حسن العاقبة لي ولكم كما قال ابن أبي الضياف.