«الوحي من خلال مصنّفات السيرة النبوية قديما وحديثا» موضوع رسالة دكتوراه تمّت مناقشتها مؤخرا في كلية الآداب والفنون والانسانيات بمنّوبة وقدّمها الباحث محمد النوي وأشرف عليها الدكتور كمال عمران ورأس لجنة النقاش الدكتور وحيد السعفي. وتألفت من الدكاترة فوزي البدوي والطاهر المنّاعي ومنجية منسية، وحصل الباحث في ختام المناقشة على درجة مشرّف جدا. ويُعدّ موضوع الرسالة «الوحي من خلال «فن السيرة» من المباحث الجديدة في أقسام الحضارة بالجامعة التونسية، التي تتميّز بالقراءة الموضوعية لتجربة النص القرآني انطلاقا من لحظة نزوله (الوحي) وصولا الى طرائق التعامل معه (التأويل والتفسير)، وهي مباحث تخرج بالنظرة للنص الديني من السياق «الكلامي» الى السياقات التاريخية، وهنا تكمن خطورة هذه المباحث باعتبارها تلامس النص المقدّس وليس سهلا على الباحث أن ينظر في بنية النص المؤسس للحضارة الاسلامية لتغيير النظرة أو لتغيير ما رسخ من عقائد وأفكار يمثل الاقتراب منها لعبا بالنار، ونذكر هنا ما حدث لنصر حامد أبوزيد في مصر. مدوّنة ضخمة الباحث محمّد النوي غامر بدخول هذا المجال معتمدا آليات التأويلية الحديثة، لدراسة مدوّنة ضخمة لفن السيرة النبوية تنطلق من المدوّنة القديمة كسيرة ابن اسحاق، وسيرة ابن هشام وسيرة ابن كثير، والسيرة الحلبية، والرّوض الانف للسهيلي، ومدوّنة حديثة نجد من أعلامها محمد حسنين هيكل وعلي الدشتي وجواد علي وهشام جعيط ومالك بن نبي ومحمد فريد وجدي وبلاشير ومونتغمري وات وقد طرح الباحث جملة من الاشكاليات على هذه المدوّنة أهمّها: كيف بنت مدوّنة السيرة حدث الوحي؟ وما هي سمات الوحي المحمّدي؟ وبم امتاز الوحي المحمّدي عن ضروب الاتصال بالمفارق الرائجة في بيئته؟ الموضوعية ولعلّه من الصعب ان يكون الباحث ملتزما بالموضوعية في مثل هذه المباحث المتّصلة بالمقدّس وبالمحاذير، ولكن باحثنا استطاع أن يرتقي الى أرفع درجات الموضوعية فتناول اشكاليات مثل لحظة الاستعداد للوحي وثقافة الرسول ے في علاقة بالالهام والوحي قبل الدعوة، وغاص الباحث في عملية بدء الوحي راصدا لحظات اللقاء بين الرسول وجبريل وشرح كيفيات اللقاء ودور الجماعة (أنصار محمد) في حماية الرسول وفي حماية النص القرآني لحظة الوحي به أو لحظة نزوله من المفارق (الملك السماء) الى عالم الواقع / الأرض، وعمل الباحث على تميز الوحي النبوي عن الثقافة السائدة في ذلك الوقت والتي كانت تؤمن بالوحي والإلهام وشيطان الشعر. بنية المفارق ولعلّ من أهم النتائج التي توصّل إليها الباحث ان الوحي المحمّدي هو وحي أصيل وذلك لسببين أوّلهما صدق محمد وقناعته الراسخة أنه انما يتلقى عن الله وحيا وثانيهما «ثورية الوحي» بتغييره عالم السماء وعالم الارض وعالم الثقافة، وثانيهما أن «للبشري» دورا في تجربة الوحي، فمحمد انسان وكان له انصار تولّوا حماية الوحي ومعارضون كانوا يعملون على ايقاف أو قطع عملية الوحي، وثالثهما ان تجربة الوحي كانت «تجربة عظيمة» لأنها استطاعت ترسيخ حضارة جديدة وثقافة جديدة ضمن أطر من الثقافات والاعتقادات السائدة لمدة قرون طويلة. واستطاعت تجربة الوحي القصيرة أن تغيّر تغييرا جذريا بنية العقل، وتؤسس لحوار جديد بين الارض والمفارق / السماء / الله، وهذا الثراء هو الذي يدفع الباحثين الى إدامة الحوار مع التراث انطلاقا من النص القرآني ووصولا الى كل العلوم التي نشأت بعد ذلك، لكن السؤال الذي نطرحه هل تجد البحوث العلمية والأكاديمية التي ترقد في رفوف جامعاتنا وهي ثرية ومتميّزة لنفسها طريقا للنشر والتوزيع حتى يستفيد الفكر والمثقفون والدارسون؟ ذلك هو السؤال الذي يحيّرنا فعلا لأن الآلاف من البحوث الجامعية القيّمة لو نُشرت لغيّرت الكثير من المشهد الثقافي في بلادنا.