نقل عن اليهودي البولندي دافيد غرون (grün) الذي غيّر اسمه نسجا على منوال أبناء جلدته الى دافيد بن غوريون والذي كان أول رئيس حكومة صهيونية بعد الاغتصاب قوله عن فلسطين (لقد أخذناها دونما دونما وشجرة شجرة)... ولا نضيف شيئا إذا قلنا إن الصهاينة وقد وضعوا مشروعهم وحشدوا له ما استطاعوا من قوة مضوا على مدار العقود الستة الماضية في تنفيذه خطوة خطوة ولبنة لبنة مستخدمين من أجل ذلك كل الوسائل والسبل والحيل حتى إذا ما توقفوا مرة نتيجة مقاومة أو ضغوط فذلك لا يعني الإلغاء بل سرعان ما يستأنفون التنفيذ بمجرد أن تتاح لهم فرصة.. ولا نضيف جديدا أيضا إذا ما قلنا إن ما يسمى (اسرائيل) تأسّست على أساطير بداية من مقولة (شعب اللّه المختار) و(أرض الميعاد).. وقد فصل روجيه غارودي ذلك في كتابه الشهير (الأساطير المؤسسة لدولة اسرائيل). وإذ يقومون اليوم بالاعلان عن بناء 1600 مسكن في القدسالشرقية للمجلوبين من شذاذ الآفاق، وسواء بدأوا التنفيذ وأجلوه إكراما لخاطر أوروبا وأمريكا، فذلك ليس سوى خطوة على طريق الضم الكامل والتهويد الكامل للمدينة المقدسة التي أعلنوها (عاصمة أبدية) منذ عام 1980 أي مباشرة تقريبا بعد اتفاقات كامب دافيد.. وال1600 وحدة سكنية التي أثار الاعلان عنها ضجة و«استنكارات» هي جزء من مشروع كامل يصل عدد مساكنه الى 50 ألفا بالتمام والكمال تحدثوا عنه ولم يستنكره أحد بعد.. والغريب أن هذا الاستنكار سواء من الرباعية أو أوروبا أو واشنطن لم يلق من الصيغ إلا المطالبة بالتعليق أي بعبارة أوضح التأجيل، حتى السيد بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة الذي كرّر استنكاراته نسي أو تناسى أن لديه في مقر المنظمة قرارات واضحة وصريحة تنص على عدم شرعية ضمّ القدس أصلا وضرورة تركها لأصحابها باعتبارها أرضا محتلة فردّد السيد الأمين العام بأن (وضعية القدس محل تفاوض) هكذا؟ وتدشين ما سمّي كنيس الخراب أو «هاحوربا» بالعبرية إنما جاء مباشرة بعد أيام من الاعلان عن ضمّ مسجد بلال بن رباح والحرم الابراهيمي الى ما يسمونه (التراث اليهودي). وكنا قد استعرضنا في الأسبوع الماضي جانبا من هذا التراث الأسطوري المزعوم الذي لا يقلّ عن ستين معلما في فلسطين ما كانت يوما ملكا لليهود.. وقصة كنيس الخراب أوردتها صحيفة «الشروق» في وثيقة نشرتها يوم الجمعة الماضي.. لكن لمن لم يطلع على هذه الوثيقة نقول إن هذا الكنيس لم يكن يوما تراثا يهوديا إذ بني أول مرة في بداية القرن الثامن عشر عندما قدم يهود من بولندا (قبل مجيء مواطنهم بن غوريون) فاستدانوا ووعدوا موظفي السلطنة العثمانية التي كانت فلسطين تحت سلطتها برشاوى ليقيموا هذا المعبد على بعد أمتار من المسجد الأقصى الشريف.. وعندما عجزوا عن تسديد الدين ودفع الرشاوى قامت السلطات العثمانية بهدمه وتخريبه عام 1721م وأعادوا الأرض الى أصحابها وهم عائلة البكري المقدسية.. يومها سمي هذا المعبد كنيس الخراب.. وفي بداية القرن التاسع عشر وتحديدا في عام 1808 عاد الى المكان يهود من بولونيا أيضا أوفدهم حبر أو «رِبِّي» يدعى (ايليا بن شلومو زلمان) واتخذ من الأسماء (جاؤون فيلنا) متنبّئا لهم بأن بناءه سيتمّ ويهدم ثم يعاد بناؤه في القرن العشرين ويعتبر ذلك بشارة لهم بقرب إقامة الهيكل المزعوم وعلى أنقاض الأقصى الشريف (هكذا قالوا وصدقوا الأسطورة/ النبوة).. وفشل أولئك البولنديون عامها في البناء الى أن حدث زلزال في القدس عام 1834م هدم الكثير من المباني فاغتنم اليهود فرصة إعادة الإعمار الشاملة ليعيدوا هم أيضا بناء كنيس الخراب وجمعوا لذلك تبرّعات من يهود اليمن والعراق والهند وسيلان وأستراليا ونيوزيلندا وساهم معهم ملك بروسيا في ذلك الوقت.. وعندما اندلعت الحرب في عام 1948 (حرب الاغتصاب) اتخذت منه عصابات الهاغاناه معسكرا فدمّره الجيش الأردني. وها هي إسرائيل التي اتخذت من ضعف العرب قوة تعيد بناءه وتدشنه وتعلو ببنيانه وتجعل له قبة ليحجب رؤية الأقصى وخاصة قبّة الصخرة من الجهة الغربية.. وتضيفه الى عدد من الكنس والمعابد ناهز عدد المساجد والكنائس المسيحية في المدينة العتيقة إضافة الى بناءات أخرى تلتهم المدينة لبنة لبنة وشبرا شبرا ومنها متحف أطلقت عليه (قافلة الأجيال) وآخر سمّته (البيت المحروق) الخ.. هذا الى جانب المضي في الحفر تحت مساكن المقدسيين وتحت الأقصى الشريف الذي أصبح مهددا فعلا بالانهيار بعدما فشلت في إحراقه واقتحامه.. كل ذلك والهدف المعلن هو إعادة بناء الهيكل الذي تقول أساطيرهم انه سيكون مركز ملك اسرائيل. قد لا نفي المقدسيين وسكان الضفة الفلسطينيين حقهم من التبجيل لما يقومون به ليلا نهارا في مقاومة العدوان الصهيوني على مدينتهم وعلى أولى القبلتين بصدور عارية يعمرها الإيمان وحب الفداء.. لكن من حقّنا أن نسأل: أما آن للعرب خاصة والأمة الاسلامية كافة أن تتخطى مرحلة الشجب والاستنكار والتظاهر والاستجداء لأمريكا أوغيرها وتقف ولو لمرّة وقفة عزّ تصون بها الأقصى الشريف.. أم أنها ستترك الأقصى الى الضياع وتترك الصهاينة ينفذون نبوءة حبرهم بأن كنيس الخراب هو الخطوة الأخيرة قبل خراب الأقصى؟