من أسوإ وأخطر ما يمكن أن تبتلى به الشعوب هو حكم لا يحسن الانصات الى هواجسها والاستجابة الى تطلعاتها ومعارضة ليس لديها ما تقترحه وتقوله ولكنها تعيده مرارا وتكرارا. والمفارقة التي يمكن تسجيلها بيسر في راهن تونس السياسي هو أنه بقدر حرص السلطة السياسية على الانصات لجميع الفرقاء وسعيها الى تشريكهم في كل ما يتعلق بالشأن الوطني وإثباتها بشكل قاطع قدرتها على الاستجابة لتطلعات جميع شرائح المجتمع وجهاته وفئاته بل وتجسيم تلك التطلعات واقعا لا يقبل المراجعة أو الانتكاس، فإن رهطا من المعارضة لم يدرك وللأسف بعد إن ما يروج له مجرد فقاعات صابون في الفضاء لم تعد تغري أحجامها وألوانها حتى الأطفال وما بالنا بمن بلغوا سن الرشد وحازوا ملكة التمييز والفرز بين القمح والزؤان. ولعل ما يثير الدهشة هو هذا الاصرار الممل على ترويج بضاعة أدرك التونسيون أنها قد فقدت صلوحيتها بالرغم من علب البلاغة التي تعرض فيها والحفلات التنكرية التي تقام من أجل تسويقها داخليا وخارجيا.. حفلات تستخدم فيها ذات المساحيق والأقنعة والأضواء الكاشفة وكأن التاريخ عند هؤلاء ساكن وقاصر عن الحركة، بل هو فعلا كذلك في ايديولوجيات تحنطت وتحولت الى مومياء صالحة للعرض في المتاحف وباتت خارج كل سياق وفي طلاق بائن مع المكان والزمان. إننا لا نعارض ولا ننفي حق هؤلاء في اختيار أن يكونوا على يسار الوطن، ولكن من حقنا أن نسأل انطلاقا من مفهوم اليسار ذاته وأدبياته، كيف يكون يساريا حدّ العذرية من يجد في المواقف الأمريكية ما يطربه ويثيرانتشاءه وينسى دون مقدمات معلقاته الطويلة حول الهيمنة والامبريالية والليبرالية المتوحشة ويشطب بجرة قلم ما ارتكبته الادارات الأمريكية المتعاقبة من جرائم في حق العروبة والعرب؟ وكيف يكون يساريا وتقدميا وديمقراطيا واشتراكيا من باع قلمه ووظفه في خدمة مشايخ النفط والغاز واستجدى الوجاهة والبركة من منابر «شوازركوف الصحراء» وإمبراطورية «السيلية»؟ أليس في هذا شيزوفرينيا وازدواج في الشخصية تنزع عن صاحبها كل أهلية في إعطاء الدروس للآخرين.. ألا ينزع هذا الانفصام في الشخصية عن صاحبه كل مصداقية وهو يقيم المناحة ويدبج قصائد الرثاء المطولة في حرية التعبير والاعلام في تونس والمفارقة إن ما يكتبه يطبع وينشر في تونس ويوزع في أكشاكها.. أليس في هذا أيضا وجها من وجوه التزييف وتناقض صارخ بين حقيقة الواقع والكذبة المعلنة والافتراء..؟ لئن كنا لا ننكر على أحد حرية اختيار موقعه وبدلته الفكرية وربطة عنقه السياسية، فإننا في المقابل نربأ بأن ينحدر الحوار والجدل الى هذا الدرك من الاسفاف والانحطاط والابتذال بما لا يتنافى ويتعارض مع أخلاقيات المهنة الصحفية فقط، وإنما يسقط تحت طائلة القانون باعتبار أن ما صدر عن الصحفي في كتيبة «شوازركوف الصحراء» يعد في دائرة الثلب ولا علاقة له بالاختلاف في الرأي ومنطق الولاء والمعارضة. ومن المضحكات المبكيات أن يصدر هذا الاسفاف والابتذال وهذه السوقية من طرف من يدعي أنه الأمين على أخلاقيات المهنة وشيخ طريقتها وحارس أبواب محرابها وقلعتها.. وهنا نسأل من جديد كيف لفاقد الشيء أن يعطيه. إننا سوف لن نستدرج الى المستنقع الاعلامي والسياسي والأخلاقي الذي سقط فيه هذا الديمقراطي جدا والتقدمي جدا حدّ لباس العقال والعمامة لقناعتنا أن وحده السفيه يعرف مواصفات السفاهة والسفهاء وقد شرب مفرداتها حتى الثمالة، وأتقن صياغة سيناريوهاتها، وتفنن في نسج حبكة ما تتطلبه من أراجيف وأكاذيب، ولأننا ندرك كذلك أن الصراخ هو وسيلة العاجز وان الاسفاف هو لغة الكاذب الذي تعوزه الحجة ويعاني من خصاء فكري وسياسي.. لقد تخصّص، من أفقده الحقد رشد الكلمات، في تحويل النور الى عتمة والبياض الى سواد، وبات لزاما علينا تذكيره بأنه إذا كانت ميزة الذكي انه يستطيع التظاهر بالغباء فإن ممارسة العكس صعبة جدا.. إذ يستعصي على الأغبياء توظيف نعمة الذكاء، فنحن شعب يدرك أن الأكثر حديثا عن الحرية والديمقراطية هم من ألدّ أعدائها.. وإلا بماذا نفسر نعت مخالفيك الرأي ب«السفهاء» لمجرد أن قناعاتهم لا تجد هوى في نفسك.. وكيف يكون ديمقراطيا ونصيرا لحرية الرأي والتعبير من ضاقت به العبارة واستنجد بقاموس الشتيمة وقلّة الأدب وانعدام الحياء..؟ قال تشرشل ذات يوم لندني غانم «إن المتعصّب هو من لا يستطيع أن يغيّر رأيه ولا يريد أن يتغيّر موضوع الحديث..» ويكفي أن نتأمل هذه المقولة حتى نتأكد من أن ما حبره هذا المريض الذي يرفض أن يلبس ثوب العافية لا يصدر إلا عن متعصّب ومنغلق يستطيع الاقامة خلف سياج دوغمائي. إننا مع مزيد الارتقاء بمشهدنا الاعلامي ومع مزيد من الحرية لكن ليس وفق مقاربات هذا الأعمى الذي يصرّ على أن لا يرى الواقع من حوله إلا عبر نظارات سوداء..