الجمالُ من نعم الله على عباده ومجالاته كثيرة لا تُحصى ومنه جمال الطبيعة وجمال الأخلاق وجمال الوجه والجسم وهذا الجمال الأخير قد يكون سببا في إلحاق الأذى بصاحبه وهو ما حدث لشاب وسيم فائق الجمال يُدعى نصر ابن حجاج عاش بالمدينةالمنورة على عهد سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذي اشتهر بعدله وبانتهاجه طريق الحق لا يخشى في ذلك لومة لائم، وقد حدث أنه كان يطوف ليلا في سكك المدينة على عادته إذ به يسمع امرأة تنشد هذه الأبيات: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجّاج إلى فتى ماجدِ الأعراق مُقتبل سهلِ المُحيّا كريم غيرِ ملجاج تُنميه أعراقُ صدق حين تنسبه أخِي وفاء عن المكروب فرّاجِ وهنا علم الخليفة أن نصر بن حجاج هذا تهتف بذكره ومحاسنه النساء في خدورهن فأمر من الغد بإحضاره فإذا هو من أجمل الناس وجها وأحسنهم شعرا، فقصّ له من شعره فخرج من عنده وله وجنتان كأنهما شُقتا قمر، فأمرهُ بأن يلبس عمامة فازداد الناس افتتانا بعينيه فقال عمر «والله لا تُساكنني في بلدة أنا فيها وأمر بإرساله إلى البصرة ليعيش حياته هناك بعيدا عن تعلق النساء بجماله. ثم إن المرأة التي سمعها عمر تنشد الشعر خافت أن تصدر عنه عقوبة تطالها فاحتالت بأن أرسلت إليه أبياتا تُبرّئ ساحتها من الخمر ومن العلاقة بنصر بن حجاج لأن تقوى الله تمنعها من ذلك قائلة له: قُلْ للإمام الذي تُخْشى عواقبه مالي وللخمر أو نصرِ بن حجّاج لا تجعل الظن حقا أن تُبينهُ إنّ السبيلَ سبيلُ الخائفِ الراجي إنّ الهوى زُمَّ بالتقوى فتحسبه حتى يقرّ بإلجام وإسراج ولمّا بلغت هذه الأبياتُ سيدنا عمر بكى وقال: الحمد لله الذي زمّ الهوى بالتقوى، ثم إن نصر بن حجاج طال مقامه بالبصرة واشتاقت إليه أمه كثيرا فاعترضت يوما أمير المؤمنين في الطريق وقالت له: والله لأقفنّ أنا وأنتَ بين يدي الله يوم القيامة وليحاسبنك الله فكيف يبيتُ ابناكَ عبد الله وعاصم إلى جنبيك وبيني وبين ابني الفيافي والأودية؟ فقال لها: إن إبنيَّ لم تهتف بهما النساءُ في خدورهن. أما نصر بن حجاج فقد استغلّ خروجَ البريد من البصرة إلى دار الخلافة فكتب الرسالة الشعرية الآتية إلى أمير المؤمنين: بسم الله الرحمان الرحيم سلام عليك يا أمير المؤمنين أما بعد فاسمع منّي هذه الأبيات: لعمرِي لئنْ سيرتني أو حرمتني وما نلْتَ من عِرْضي عليك حرامُ فأصبحت منفيا على غير ريبة وقد كان لي بالمكّتين مُقام لئن غنّت الذلفاءُ يوما بمُنية وبعضُ أماني النساءِ غرامُ ظننتَ بيَ الظنّ الذي ليس بعده بقاء ومالي جرمة فأْلامُ فيمنعني مما تقول تكرمي وآباءُ صدق سالفون كرامُ ويمنعها مما تقول صلاتها وحال لها في قومها وصيامُ فهاتان حالان فهل أنتَ راجعي فقد جبّ منّي كاهل وسنامُ ولمّا قرأَ عمر الرسالة رفض إرجاعه إلى المدينة وأقطعه دارا بسوق البصرة يسكنها ولما توفي الخليفة رضي الله عنه ركب نصر بن حجاج راحلته وعاد إلى المدينة واستقر بها منعما وسعيدا الأعراق: أصل النسب والانتماء الملجاج: الكثير العناد والنقاش خدور النساء: بيوتهن زمَّ بالتقوى: حُفِظ وحُصّنَ الوجنتان: الخدّان الذلفاءُ: اسم المرأة صاحبة الشعر المذكور