يكشف هذا العمل الجديد لجلال باباي عن رغبة في كسر الطوق وكتابة نص بمناخات جديدة أو لنقل غير مألوفة في تجربته ...فجاء هذا العمل أقل قصائد وجدانية من أعماله السابقة التي سيطر ت عليها الحميمية والأحاسيس...لقد أعدت قراءة هذا العمل مرات فاكتشفت أن ثمة نوعا من تغيير الوجهة وبداية تحول في نصوص الشاعر الباحث عن نصوص أكثر أملا وحلما...حيث اختلف جلال عن نفسه وطاف بنا في زوايا أخرى لم نعهدها في شعره.....أنه يحاول كسر الطوق اللغوي والمكاني والشعري....فكتابه جاء مترجما إلى اللغة الفرنسية وفضاءاته جاءت مخالفة للمكان المحلي الذي اعتادت نصوصه أن تحوم فيه كما أن نصه جاء متاخما للنص الموسيقي وللنص التشكيلي الذي حضر أيضا.... 1 زوايا البهجة المكان مكون هام من مكونات القصيدة الحديثة وهو يكتسي بعدا تجميليا ونفسيا فهو في بعض النصوص مجرد زخرفة ولكنه يحيل على دلالات فكرية ونفسية وقد نوّع الشاعر في الفضاءات المكانية في هذا العمل فجمع بين الأماكن المحلية و الغربية وهو بذلك يختار سبيلا للإحتفال بهذه المدن وتحيتها...فكانت الفضاءات المكانية التي طاف بها حبر الشاعر فضاءات بهجة استعاد فيها عبق التاريخ ووهج الشعر والابداع.... لقد كانت «شرفة القيروان» نافذة على التاريخ والمجد وكانت «لوديف» نافذة على دنيا الماء وعلى حضارة البحر هناك والقلعة نافذة على صديقه التشكيلي محمد الزواري....وفي المجمل كانت كل هذه الفضاءات زوايا للبهجة والفرح. وقد أطل الشاعر في البدء على القيروان ...وتجولت قصيدته في معالمها ...في عباءة المتصوّف والشاعر في آن واحد حيث اندمجت معاجم المتصوّفة والشعر بتاريخ المدينة الذي اكتسى بعدا روحيا خاصا: «أبي زمعة يا سلوة القلب العليل وزاوية تستعيد فجر الصلاة تصاعد من أبوابها أحجية الله أنهض فتدميني القصيدة ويساقط من أصابعي ماء التشظي هي القيروان تمد خميلتها على تلال رقادة تطهرنا من عبث النهار وتؤجلنا زعترا (ص5) ويحلق الشاعر مندفعا في الفضاءات الغربية مصورا إياها من ذلك «امستردام» «في ميناء امستردام هناك بحارة يموتون واخرون يرقصون تحت فوانيس الماء تنبعث من زوارقهم موسيقى شبيهة بكآبتهم ترمقهم عند باحة البحر... نوارس في العراء (ص7) وكذلك «لوديف» الفرنسية التي بدت قيروانا غربية أو لنقل مدينة أخرى تحتفي بالشعر و بالمتوسط مازالت الامكنة في «لوديف» تتسع لتغريد العصافير المهاجرة ومازال الشعراء ينحتون من دم المحبرة جواهر من أحلام للمتعبين (ص20) ولكن هذه الفضاءات المبتهجة بما فيها من فرح وحياة لا تنسي الشاعر زوايا الحزن العربي فيذكر لبنان والعراق في مرحلة من مراحل الحزن فتتحول زوايا البهجة إلى زوايا ألم .يقول عن بغداد : «من فظاعات الزمن الردئ تركض الأماني بأجراس عذاباتنا البيوت الثلجية في بغداد ترشح بكبائر الأحلام وتتقد أوراقنا بقبس الليلة الماطرة (ص37) 2أصوات متقاطعة ومثلما تقاطعت المدن غربية وعربية حديثة و قديمة تتقاطع الأصوات فيتداخل صوت عبد الحليم بصوت «ماتيلد» و«صافو» و«جاك بريفير» و«جوزيف كوسما» و«ماريزا» وفرقة «القناوا» المغربية.....وتتداخل الصحراء بالماء فتحمل المجموعة فسيفساء خاصة...هل هو السعي إلى نص بلا حدود أم هو البحث عن الالم هنا وهناك .؟؟ يستدعي الشاعر أغنية معروفة لعبد الحليم حافظ «تنهمر الأصوات صوب فوهة الماء أي دمعة حزن لا لا أي جرح في قلبي لا لا أي لحظة حيرة لالا (ص 18) ثم يرسم مشهدا شعريا متنوع الأسماء والمشارب ...هو في النهاية مشهد يعبر عن الفضاء المتوسطي «عانقنا رفقة «مايتي» قيثارة «صافو» وأنشدنا رقصة الخريف و الأوراق الميتة» (ص22) ويضيف «رددنا أهزوجة فيروز الصبا حية ورصدنا بشائر العودة سنرجع يوما إلى حينا اه من «ماريزا» ومن نبرات «الفادو» الموسومة بالشجن الويل لشياطين التتار من لهب الشهيد وصلوات الثكالى في مهب الحصار طوبى لحنجرة «جوليان بلين» مثل دوي في وجه الطغاة ورصاصات غضب في قلب الإعصار رفقا بأ فئدتنا يا نواقيس «قناوا»...(ص22) إن الاسماء التي جمعها الشاعر في هذا المشهد متنوعة وهو احتفال الشعر بالموسيقى كما يبدو وهو في النهاية احتفال بهذه الأصوات الثقافية من شعراء وموسيقيين...وهو الاحتفال الذي لم يخل من معاجم الألم..ومعاجم المعركة العربية...ومرة أخرى تتحول بهجة الاصوات إلى أنين وألم وحلم حيث يتسلل خطاب الحلم والألم إلى هذه النصوص.... ٭ الأصوات تنفذ إلى مآقي الماء شعر جلال باباي وترجمة صفية ونفيسة التريكي