لا يكاد الجدل حول المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل يخفت حتى يتصاعد من جديد... وكأن المفاوضات أصبحت غاية بحد ذاتها وليست وسيلة لتحقيق الغاية ممثلة في سلام شامل وعادل يعيد الحقوق السليبة لأصحابها ويمكّن الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف مع تأمين حق العودة لملايين اللاجئين.. والواضح ان لعبة اشعال الجدل حول المفاوضات المباشرة او غيرها هي لعبة يبرع فيها الكيان الصهيوني بامتياز لأنه يتخذ منها وسيلة لتدويخ الطرف الفلسطيني، وفقا لنظرية «التدويخ السياسي» التي أطلقها وطوّرها بيريز لجعل الفلسطينيين يفقدون البوصلة من كثرة المواعيد والمحطات التفاوضية.. ويقبلون في كل مرة بتنزيل سقف حقوقهم ومطالبهم تحت ضغط موازين القوى الراجحة بالكامل لحساب اسرائيل وتحت ضغط ما تفرضه غطرسة القوة من «حقائق جديدة» على الأرض.. وبذلك فإن أصل الحدث يصبح مجرد استئناف المفاوضات.. اما المرجعيات والقضايا التي سيتم التفاوض بشأنها ومدى التزام إسرائيل بقرارات الشرعية الدولية وبضرورة وقف حملات التوطين والتهويد وبالذات في القدسالمحتلة، فتصبح مجرّد تفاصيل ثانوية يمكن ارجاؤها باستمرار الى حين استكمال مخططات التهويد وتغيير ملامح الارض بقوة السلاح وبقوة الدعم الأمريكي.. وبالتالي الى حين رسم الحل النهائي من طرف واحد وبالاعتماد على غطرسة القوة فقط بعيدا عن مقتضيات قرارات الشرعية الدولية وقيم الحق والعدل والإنصاف.. وما الجدل الذي يغذيه هذه الأيام بنيامين نتنياهو الا حلقة في سلسلة التدويخ السياسي الصهيوني وكذلك وسيلة لتلهية الطرف الفلسطيني في جدل عقيم حول التفاوض وإن كان مباشرا او غير مباشر... وهو جدل تنخرط فيه الإدارة الأمريكية بالكامل وتنحاز فيه الى جانب اسرائيل من خلال ضغطها المتواصل لجرّ السلطة الفلسطينية مجددا الى مائدة التفاوض... أما قضايا الحل النهائي ففيها نظر... وأما الحقوق الوطنية المشروعة فيمكن ان تنتظر.. وسيظل بائع الأوهام جورج ميشيل يروح ويجيء ويتبادل القبل الحارة مع نتنياهو والابتسامات الصفراء مع السلطة الفلسطينية الى حين يستكمل نتنياهو تنفيذ مشاريعه وبرامجه «التهويدية» ايذانا بفرض «الحل النهائي» على الشعب الفلسطيني ممثلا في تمكينه من حكم ذاتي إداري داخل معازل (كانتونات) بشرية يتحكم في مداخلها الاحتلال الصهيوني... ويدفن فيها حلم الدولة الفلسطينية الى حين تدرك القيادة الفلسطينية و«الاشقاء العرب» ان وضع كل بيضهم في سلّة السلام مقامرة خاطئة وخاسرة مع عدو لا يفهم الا لغة القوة بكل معانيها.