بقلم الأستاذ: الحبيب رويس (أستاذ فلسفة ورئيس المكتب الجهوي لجمعية منتدى المربين بأريانة) يستوقفني الاحتفال باليوم العالمي للمربي الموافق ل4 أكتوبر من كل عام للتفكير في صورة المربي في خضم التجاذبات الاجتماعية والسياسية الجديدة التي تعيشها بلادنا بدخولها القرن الواحد والعشرين من أجل رصد ما يحتمه المشهد التربوي اليوم من مراجعة للالتزامات الحضارية والمهنية للمربين حتى تستجيب إلى جملة الرهانات الجديدة. فالمربي اليوم في ظل القانون التوجيهي لسنة 2002 والنصوص الترتيبية المكملة له بات مطالبا، بما له من مسؤولية حضارية مجتمعية، بالمساهمة في رسم خارطة الطريق للنهوض بفضائنا التربوي ذلك أن اعتبار التلميذ محور العملية التربوية لا يمكنه بأي حال أن يدفعه إلى الانكفاء على ذاته واختزال حضوره داخل المجال التربوي في الوظيفة التعليمية ذلك أن المربي هو الرقم الأصعب في معادلة المنظومة التربوية باعتباره نقطة الاتصال الأقرب والأكبر مع التلميذ بما أنه يلتقي معه بمعدل ست ساعات يومية، وهو المعدل الأرفع في مستوى اللقاءات اليومية التي تجمع التلميذ بمحيطه الاجتماعي وهو بذلك الأكثر تأثيرا فيه على الصعيدين المعرفي والقيمي حيث نتبيّن من ذلك أن الزمن المدرسي هو زمن المعرفة والمهارات التقنية وصناعة الذكاء لكنه في آن هو زمن نفسي واجتماعي يحتم على المربي أن يكون على وعي كامل بخطورته ويلزمه بأن يكون على استعداد كامل لتحمل مسؤولية وتيرة هذه اللقاءات. فمربي اليوم بات يدرك، بموضوعية أنه لم يعد الرسول الذي تتغنى به الأشعار وقصائد أحلام الطفولة والذي يحمله مسؤولية أخلاقية ينحني الجميع إجلالا أمامها، وأنه لا يحتفظ اليوم بصورته الأسطورية التي يمثل فيها زمن المدرسة التقليدية سلطة أدبية يلزم بموجبها تلاميذه بالانشغال بالدرس والاحتفاء بالمعرفة وتقديسها، إذ بات عليه أن يتكيف مع تحولات الواقع الاجتماعي التي صار الأولياء والإعلام يلعبون فيها دور كتلة الضغط بنزوعهم المستمر إلى تقييم أداء المربي وحتى مواجهته انتصارا لمنظوريهم من التلاميذ قد يصل إلى حد الإدانة بتعميم بعض المظاهر السلبية والسلوكات الفردية المعزولة على كل المربين وقد يدرك أحيانا درجات من التعنيف يبدو كأنه تحالفنا بين الأولياد والتلاميذ بإهانة بعض التلاميذ لمدرسيهم أو تهديدهم بالعنف أو تشويههم بوسائط رقمية وبرمجيات إعلامية شرسة تنتشر من خلال الثقافة الفايسبوكية التي يتهاتف عليها تلاميذنا انتشار النار في الهشيم. بات على المربي إذن في القرن الواحد والعشرين أن يعرف أنه: 1) ليس المرجع الوحيد في المعرفة وأن سلطة المعرفة صار يتقاسمها الأولياء بحصص المراجعة ووسائل الإعلام والكتب الموازية وصفحات الانترنات وبالنشر المتفتح على كل المحاولات غثها وسمينها، صالحها وطالحها بل يمكن القول إن الدرس الذي يتخلى عن الطريقة التلقينية بات يوفر ديمقراطية التدخل لكل الأطراف ذات العلاقة بالشأن التربوي وهو ما يحتم على المربي الاستعداد لكل هذه الوضعيات حتى يستعيد فاعليته. 2) وهو ليس المرجع الأول في التربية بما أن التلميذ لم يعد ينهل قيمه من المربي والأسرة فحسب وإنما من بيئته الثالثة الاجتماعية وبيئته الرابعة الإعلامية وأن نفوذها بات أقوى بتقلص الرقابة الأسرية على استعمال وسائل الاتصال وتزايد انكماش التلاميذ وانتشار مرض التوحد وغياب الوعي بالمسؤولية بتقلص توقير المربي واحترام «الكبار». فالتحولات الاجتماعية والتطورات التقنية في الوسائط البيداغوجية والتطورات العلمية والفنية المتسارعة والتحولات السياسية زمن العولمة تحتم تغيير الوظائف التقليدية وتطويرها بما يسمح بالتكيف مع المستجدات الاجتماعية التي غيرت ملامح الأسرة التربوية وأدوار أعضائها وهو ما يحتّم: تطوير تدخل إطار الإشراف حتى لا يكون مجرد هيكل تنظيمي إداري وإنما فضاء للحوار بين المربين فيما يتعلق بالشأن التربوي وأرضية استشرافية يتحمل فيها الجميع مسؤولياتهم الحضارية. تطوير تدخل الهيكل النقابي حتى لا يختزل دوره في حركات مطلبية مهنية ضيقة وإنما يتحمل مسؤولياته الوطنية في الدفاع عن هوية تربوية مميزة بالدفاع عن حق المربي في أن يكون مربيا لا مجرد موظف. تطوّر دور المنظمات لتجاوز حضورها الاستعراضي المناسباتي إلى فعل ثقافي يساند المربي في فعالياته التربوية بورشات حية حول القيم التربوية من خلال استراتيجيات موحدة يشرف على تنسيقها إطار الإشراف. تطور أداء الأسرة والأولياء بما يسمح بتحيين قيمها التربوية دون المساس بهيئة الإطار التربوي بالمدرسة واعتبار تكامل الأدوار شرطا لنجاح المؤسسة التربوية في تحقيق رهانات التنمية وتوليد دافعية في أبنائها التلاميذ تعدهم بها إلى حياة اجتماعية ومهنية تواكب تحولات الواقع. تطور أداء المربي بتجويد عمله من خلال تكوين مستمر يسند إلى تقنيات علمية وفنية عالية تحفزه للعمل في مناخ من الثقة واحترام الواجب الوطني والمسؤوليات التاريخية المناطة بعهدته. تطوير حضور المربي بالمؤسسة التربوية بتحفيزه لتوظيف مهاراته الفنية أو الرياضية والمشاركة في تنشيط الحياة الإبداعية في المدرسة من أجل تكوين أجيال متوازنة الشخصية ومستعدة للمبادرة والفاعلية. فما تعيشه مدرستنا اليوم لا يدفع إذن إلى التشاؤم بقدر ما يدعو الجميع إلى العمل الجاد وتطوير أساليب تدخلهم في الوظائف التربوية بما يسمح للمربي أن يكون ورقة رابحة في مواجهة القوى الظلامية المفسدة للهوية وأن يكون على عهدنا به منتج أجيال تتحمل مسؤولياتها التاريخية تجاه ذاتها ووطنها والآخرين، وتكون قادرة على أن تترجم النوايا الطيبة للجميع إلى واقع عملي نحصد نتائجه بتطوير واقعنا الاقتصادي وتماسك مجتمعنا وقدرة بلدنا على صناعة القرار.